البلكونة في حياة المصريين المعاصرين لم يعد لها نفس الدور الذي كان لها في مراحل سابقة من القرن العشرين هذا هو ما لاحظته قناة العربية وهي ملاحظة صحيحة بالتأكيد. بعض المعلقين من المصريين علي ما بثته العربية لفت النظر إلي أن تراجع دور البلكونة في الحياة الاجتماعية هو ظاهرة تخص القاهرة ولا يمكن تعميمها علي كل المدن المصرية. الملاحظة ذكية ويجب أخذها في الحسبان لأن مصر أكبر بكثير من القاهرة, رغم أهمية العاصمة في تحديد المزاج العام والنمط السائد للقيم في مصر كلها. لم يهجر القاهريون البلكونة فقط ولكنهم أيضا أغلقوا شبابيك بيوتهم. امسح بنظرك شبابيك بيوت أهل القاهرة فستجدها مغلقة أغلب الوقت. لتغير سلوك المصريين أسباب كثيرة لكن أهمها في رأيي نزعات الانعزال والمحافظة التي باتت تسيطر علي سلوك وقيم أهل القاهرة. في الظهور في البلكونة أو النظر من الشباك خروج للعالم ورغبة في متابعته والإطلاع عليه وإعلان عن الحب تجاهه والصلة معه والانتماء إليه. البلكونة المهجورة والشباك المغلق حواجز يقيمها القاهريون المعاصرون بين عالمهم الصغير في البيت والعالم الواسع الكبير في الشارع. ' الآخرون هم الجحيم', مقولة أطلقها سارتر وصدقها أهل القاهرة. جحيم الآخرين يجده القاهريون في الشارع وفي الجيران, فهجروا البلكونة وأغلقوا الشباك للنأي بأنفسهم عن الجحيم. الزحام المسيطر علي القاهرة لم يترك للفرد فيها مساحة كافية يتمتع فيها بخصوصيته خارج البيت, فهجر البلكونة وأغلق الشباك هربا من آلاف العيون والآذان والأجساد التي تنتهك خصوصيته. الطلب الاجتماعي علي الخصوصية زاد مع نمو الطبقات الوسطي, ومع نمو المشاعر الدينية المحافظة أيضا. حرص النساء المتزايد علي تغطية الشعر والجسد في المجال العام جعل البيت فرصتهم الوحيدة للتحرر من قيود الملابس. سد منافذ البيت أمام الشارع والجيران فيه حماية لأجساد النساء في الملجأ الوحيد الذي بقي لهم للحياة بحرية. في زمن البلكونات المأهولة والشبابيك المفتوحة هرب الناس من قيود الأسرة للحرية الواسعة في المجال العام الواسع. في زمننا الراهن فر الناس من قيود الشارع والمجال العام إلي مملكة الحرية في البيت والمجال الخاص. القاهرة لم تعد مجتمعا واحدا وإنما مجتمعات متعددة منقسمة. تعددت أنماط حياة القاهريين وتناقضت حتي فضلوا الانفصال عن بعضهم البعض. البلكونات المهجورة والشبابيك المغلقة وتجمعات الفيلات المحاطة بالأسوار كلها تشهد علي التفتت والعزلة اللتين يعاني منهما مجتمع القاهرة, وعلي تآكل رأس ا لمال الاجتماعي في حاضرة مصر الكبري.