إن إعادة توزيع الدخل القومى فى أى دولة تعنى إدخال تعديلات على التوزيع الأوليّ للدخول. فقد تجد الدولة أن هذا التوزيع الأوليّ للدخول غير ملائم من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو حتى من الناحية السياسية، فتدخل عليه التعديلات اللازمة لتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية. وقد أصبحت سياسة إعادة التوزيع اليوم فى أغلب دول العالم خاصة المتقدم منها ، وبعد ما لحقها من تطور، أداة تلجأ إليها كل دول العالم فى مختلف الأنظمة الاقتصادية وذلك بغرض رفع مستوى معيشة الطبقات ذات الدخول المحدودى لضمان نوع من «التوازن الاجتماعى والاقتصادى والسياسي» تحدد مضمونه ونظامة الفلسفى التى تسيطر على المجتمع. وسنعرض هنا تجارب الدول المتقدمة المختلفة فى سياسة إعادة التوزيع والتى تسود العالم فى الوقت الحاضر ، كنماذج يمكن أن تستفيد منها الحكومة فى مصر إن أرادت تحقيق التوازن الاجتماعى والعدالة والتنمية الاقتصادية وتحقيق التشغيل الكامل. أولاً؛ بعض البلاد مثل دول اسكندنيفيا التى تتبع الفكر المالى التقليدي، يقتصر استخدام الأدوات المالية فيها على تحقيق أغراض تنحصر فى الحصول على ايرادات لتغطية النفقات العامة ، دون أن تهدف الى سياسة إعادة التوزيع , وذلك اقتناعاً منها فى تلقائية التوازن الاقتصادى ، والاجتماعي. وهو ما عرفناه من قبل «بالحياد المالي» أى أن تظل العلاقات النسبية بين مختلف الدخول والثروات كما كانت قبل تدخل الأدوات المالية (أى يعنى هذا بداهة استبعاد دور الأدوات المالية أو عدم تاثيرها فى الدخول والثروات). ولكن هذا ما لا يتيسر عملاً فوجود الأدوات المالية يؤدى بذاته ، حتى عن غير قصد ، إلى إعادة التوزيع للدخل القومي. حتي فى ظل الحياد المالي، وجود ضرائب ونفقات عامة يؤدى إلى إعادة توزيع الدخول. ومعنى ذلك أن السياسة المالية هناك لا يمكنها ، حتى ولو أرادت ، أن تكون محايدة فيما يتعلق بتوزيع الدخل القومي. إلا أن هذا الفكر المالى المحايد قد حال عملاً ، فى تلك الدول ، دون إعادة توزيع الدخول فى مصلحة الفقراء، وقد أدى على العكس، إلى زيادة عدم عدالة توزيع هذا الدخل. وهذا النوع من السياسة مجحف للطبقات الفقيرة إذا كانت تصب سياسة إعادة التوزيع فى مصلحة الطبقات الغنية لتكوين مدخرات لتحويلها إلى استثمارات تدفع التنمية الاقتصادية هناك. وبذلك انتهى الوضع المالى عملاً لا إلى الحياد المالى فحسب, بل إلى ازدياد عدم عدالة توزيع الدخل القومى فى تلك الدول. وهذا ما يجب أن يتوقف فورا فى مصر, وان كان مازال يطبق فى بعض القطاعات . وبالنظر ثانيا: إلى دول أخرى مثل أمريكا وكندا، نجد أن اتساع الهوة بين الدخول والثروات انعكس على السياسة المالية فى الخمسين عامأ الأخيرة من زيادة فى النفقات العامة الاجتماعية لعدم عدالة توزيع الدخل القومى هناك. وذلك لأن تلك حيث انتهى الفكر المالى فى هذه البلاد إلى أن نظامها الرأسمالى الذى يستند إلى «قوى السوق الحر» يؤدى إلى عدم عدالة توزيع الدخول بصورة فجة ومتزايدة فى حالة عدم تدخل الدولة للحد من هذه الظاهرة. وأمام هذا الوضع أصبحت سياسة إعادة التوزيع للدخل القومى حتى فى البلاد الرأسمالية فى الوقت الحاضر «هدفاً للسياسة المالية» فقد وجدت هذه البلاد فى إعادة التوزيع وسيلة لمعالجة المتناقضات الرأسمالية. وعليه ننتهى من العرض السابق للسياسات المالية فى دول العالم المختلفة، إن منهج إعادة توزيع الدخل القومى فى صالح الطبقات ذات الدخول المحدودة يشكل سنداً قوياً لاتجاه النفقات العامة نحو التزايد. فكثيراً ما تلجأ السياسة المالية أيضاَ، رغبةً منها فى تنمية الصناعة المحلية، الى إعادة توزيع الدخل القومى فى صالح الصناعة (وذلك من خلال الاعفاءات الضريبية أو عن طريق الاعانات الاقتصادية). كما قد تلجأ إلى إعادة توزيع الدخل فى مصلحة الأقاليم المختلفة ، وذلك بتخفيض الضرائب عليها، أو التوسع فى توزيع الخدمات المجانية فيها. وعليه يظل السؤال مطروحاً أين مصر من تلك الدول؟ إنى أرى مزيجاً من مذهب الحياد المالى ومذهب توسع الدولة فى الإنفاق، وهو ما يتعارض مع بعضة البعض. حيث يجب أن تعيد الدولة المصرية النظر فى فلسفة فكرها المالى بحيث يحقق «السلام الاجتماعي» قبل «العدالة الاجتماعي. الامر الذى يدفعنى وبعد أكثر من ثلاثة أعوام ونصف على قيام ثورة 2011 والموجة الثانية لها فى 2013 وهذا التحول السياسى والاجتماعى والاقتصادى أن أسأل، هل ما نفعله بهذا الصدد من اجراءات هو الصواب من الناحية العلمية وهل تطبق المعايير الاقتصادية السليمة الواجبة فى مثل هذة الظروف؟ أم يجب أن يحدث تغيير جذرى فى هيكل السياسات الاقتصادية المتبعة حتى نصل إلى العدالة لمجتمع الملايين , من خلال تبنى ما يعرف بفلسفة «الفن المالى الحديث», ان هناك كثيرا من الضوابط الاقتصادية يجب ان تؤخذ فى الاعتبار فى مراحل النمو فى اى دولة, خاصة بعد الثورات حتى لا نصل الى ان احدنا يستفيد و الآخر يدفع الثمن. لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب