سبق وقد ذكرتُ من قبل اثناء الانتخابات الرئاسية فى تعقيب على برنامج سيادة الرئيس السيسى (فى موضوع عدالة توزيع الدخل القومى) فى ذلك الوقت,على ضرورة أن تتدخل الدولة فى توزيع الدخل القومى على مرحلتين وهما مرحلة « التوزيع الأوليّ « أى مرحلة تكوين الدخول، ومرحلة «إعادة التوزيع» أى مرحلة إدخال تعديلات على التوزيع الأوليّ. ومعنى ذلك أن الدور الذى تؤديه عملية إعادة التوزيع «يعرف بالوضع المالى النهائي». وننبه هنا إلى أن «التوزيع الأوليّ» إذا ترك وحده دون تعديل جذريّ (خاصة فى الدول التى تتسع فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء مثل مصر) سوف يفضى إلى ما يعرف « بالوضع المالى المحايد» ، وهو الوضع الذى لا يؤدى فيه النظام الضريبى ولا الإنفاق العام إلى إعادة التوزيع فى صالح الطبقات الفقيرة ، أى لا يغير من توزيع الدخول النسبية بين المنتجين وعوامل الانتاج. وهو ما لا نريده لمصر الجديدة بعد الانتخابات. لذا افرد هذا المقال لشرح تطور الفكر الاقتصادى فى تحليل «السياسة المالية المحايدة» التى تؤدى الى الوضع المالى المحايد»، والذى يجب على المشرع الحالى والمجلس التشريعى القادم والقائمين على السياسة الاقتصادية فى مصر تجنبه فى مرحلة البناء القادمة إذا كنا نريد «العدالة الاجتماعية «حقاً وصدقاً كما وعد رئيسنا الجديد فى برنامجه الانتخابى. حيث ينصرف هذا التحليل « للسياسة المالية المحايدة» إلى معنيين: أولهما؛ تقليدى يعتمد على الأوضاع المالية النسبية، وينصرف إلى المحافظة على دخول وثروات أفراد المجتمع كما هى ، كأنه فى نظام بلا ضرائب وبلا نفقات عامة، وإنما يستبعد فحسب. إخلال أى أدوات مالية بالوضع المالى النسبى القائم. (فالغنى يظل غنيا والفقير يزداد فقرا بفعل ارتفاع الأسعار أى التضخم). وثانيهما: يعتمد على فكرة التعويض المالي، وينصرف إلى أن تقوم النفقات العامة بتعويض ما دفعه الفرد (أو الفئة ) للدولة من ضرائب. وعليه حينما يحدث تضخم فى الاسعار، تقوم منافع الدولة العامة بتعويضهم حسب التضخم .( وهنا ايضا يظل الغنى اكثر غنى والفقير يزداد فقرا) وعليه يلزم أن ننبه إلى فرقين مهمين بين هذين المفهومين للحياد المالي: أولاً- الحياد المالى عند الفكر التقليدى فى معناه الأول هو وضع مثالى تهدف السياسة المالية وتسعى للوصول اليه كهدف، ثانياً- تبنيها قصد الفكر المالى التعويضى بالحياد فى معناه الثاني، هو مجرد اساس لقياس إعادة توزيع الدخل القومى من خلال السياسة المالية للمحافظة على الوضع النسبى للدخول كما كانت حال التوزيع الأوليّ ، إذا ما حدث واضطربت نتيجة اختلالات اقتصادية مثل التضخم أو الركود.( فلا مجال هنا لتعويض الفقراء بل كل التعويض يذهب للاغنياء مقابل ما دفعوا من قبلهم من ضرائب) وذلك للحفاظ على مستوى الدخول النسبية فى المجتمع كما هى. إلا أن الحقيقة اليوم، نجد أن الفكر المالى الحديث الذى يهدف إلى «العدالة الاجتماعية» والذى وعد به الرئيس ويجب تنفيذه الان وليس غدا، يرمى فى الأساس إلى إعادة التوزيع والتى تشكّل هدفاً مهما من أهداف السياسة المالية الفعَّالة، لا السياسة المالية المحايدة التى سئم الشعب المصرى من طول تطبيقها على مرَّ العصور وخاصة فى الثلاثين عاماً الأخيرة. ونخلص مما تقدم إلى أن القائمين على السياسة الاقتصادية فى مصر والذين يأخذون التوزيع الأوليّ على أساس استبعاد دور الدولة يخلطون، وهم بصدد تحديد الاهداف القومية، بين مساهمة الدولة فى التوزيع الاولى وبين قيامها بإعادة التوزيع، والفرق هنا كبير كما أوضحت. وعليه ننتهى إلى أننا لا نقصد بالتوزيع الأوليّ. الوضع الماليّ الذى لا تتدخل فيه الدولة ابتداءً، بل نقصد به الوضع الذى لا تؤدى فيه الأدوات المالية ( الأعباء العامة والنفقات العامة ) على الرغم من وجودها ، دوراً فعًالا فى إعادة التوزيع. وعلى ذلك فإن تحديد معنى التوزيع الأوليّ يتطلب منَّ القائمين على وضع السياسة الاقتصادية فى المرحلة القادمة، أن يعرفوا ويحددوا أولا متى تؤدى الأدوات المالية (ضرائب ونفقات عامة- كمثل الضرائب الجديدة على الأرباح الرأسمالية فى سوق الأوراق المالية وما أثارته من جدل مجتمعى غير مبرر ) إلى إدخال تعديلات على التوزيع الأوليّ بشكل فعال يشعر بها المواطن متوسط الدخل والفقير كما يجب وفى أسرع وقت ممكن ، وهذا ما وعدت به يا سيادة الرئيس فى برنامجك الانتخابيّ، ونحن معك وفى انتظار تحقيقه. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب