تباشر الدولة في أغلب دول العالم المتقدم حتى الرأسمالي منها، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، تأثيراً واسعاً في تكوين الدخل القومي وفي توزيعه على أفراد المجتمع أيضاً. ويتم تأثير الدولة هذا في توزيع الدخل على مرحلتين من مراحل التدخل: أولاهما مرحلة التوزيع الأولى ونقصد هنا توزيع الانتاج بين الذين شاركوا في القيام به، أي بين المنتجين (أي تحديد مكافآت عوامل الانتاج). ثانيتهما مرحلة إعادة التوزيع، وهي ما تعرف أيضاً بالتوزيع النهائي (أي إعادة التوزيع وإدخال التعديلات على التوزيع الأولي، أي نقصد توزيع الانتاج بين المستهلكين لتحقيق شيء من العدالة الاجتماعية). وكما يعرف البعض منا، تعتمد الدولة في التأثير على توزيع الدخل القومي بين المنتجين، ثم بين المستهلكين على أدواتها المالية وعلى الأدوات غير المالية ومثلها القرارات الادارية المباشرة الخاصة بتحديد أثمان عوامل الانتاج وأثمان المنتجات ذاتها (مثل الحدين الأدنى والأعلى للأجور والرواتب والتسعيرة الجبرية وسقف الأرباح). اما عملية إعادة التوزيع للدخل القومي فتؤثر الدولة فيها عن طريق تأثيرها في الطلب الحقيقي المعروف (بالطلب الفعلي)، وذلك في حجم الدخل القومي الكلي. وبالتالي في أثمان عوامل الانتاج وأثمان المنتجات في الأسواق، أي تؤثر في التوزيع الأولى مرة أخرى من خلال إعادة التوزيع. وهو الأمر الذي يدل على عدم استقلاليتهما ويعقد من المشكلة والحل ويلقي عبئا أكبر على نطاق دور إعادة التوزيع لتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة. وحتى يمكننا أن نفهم ببساطة دور الدولة الحديثة في إعادة التوزيع: لتحقيق العدالة الاجتماعية، نجد من المفيد أن نبدأ أولاً في هذا المقال ببيان دورها فى التوزيع الأولي، وهنا نجد أن الدولة يمكنها أن تؤثر في ذلك عن طريقين: أولهما؛ خلق دخول للمنتجين، تقوم أي دولة عن طريق نفقاتها العامة بخلق دخول جديدة. وهنا يلزم أن نشير إلى التفرقة التقليدية بين النفقات الحقيقية (أي نفقات استثمارية) والنفقات التحويلية (أي نفقات استهلاكية). ونقصد هنا بالنفقات الحقيقية تلك التي تؤثر مباشرة إلى زيادة الناتج القومي، بينما يقصد بالنفقات التحويلية تلك التي لا تؤدي إلى زيادة في الناتج القومي، ولا تفضي إلى شيء إلا أن تعيد توزيع الدخل القومي في صالح طبقة على حساب طبقة أخرى. ومعنى ذلك أن النفقات الحقيقية هي التي تؤدي إلى توزيع دخول جديدة على الذين شاركوا في الانتاج، وهذا هو المطلوب من أي حكومة جادة، بينما لا تفعل النفقات التحويلية، بطريقة مباشرة، إلا أن تدخل تعديلات على التوزيعة الأولى، وهذا ما يجب ألا تفرط الحكومة في استخدامه. ثانيهما تحديد أثمان عوامل الانتاج فبالإضافة إلى قيام الدولة بايجاد دخول جديدة للمنتجين فكثيراً ما يجب أن تقوم الدولة، وبما لها من سلطة سيادية، بتحديد أثمان عوامل الانتاج، وهي الأجور والفوائد وريع الأراضي والمباني والأرباح. وهنا ننبه إلى أن الدولة قد تتدخل في تحديد الأرباح الموزعة على الأسهم، كما أنها قد تتدخل في طريقة تحديد الأجور والفوائد والأرباح. وبالإضافة إلى هذا التدخل المباشر الذي يجب أن تقوم به الدولة في دخول المنتجين فانها تقوم ايضاً في كثير من الأحيان بتحديد أثمان المواد الأولية وأثمان المنتجات إذا لزم الأمر، تحت مسمى السعر العادل والربح العادل. ومن البديهي أن يختلف مدى تدخل الدولة في توزيع الدخل القومي، عن طريق ايجاد الدخول للمنتجين وتحديد أثمان عوامل الانتاج، تبعاً لطبيعة النظام الاقتصادي القائم وتبعا لدرجة التفاوت بين الدخول في المجتمع الواحد، ولكن يمكن القول بصفة عامة أن تدخل الدولة، في ظل الاقتصادات الحديثة المعروفة بالاقتصاد المختلط أو النظم الاقتصادية الوسطية (التي تجمع بين آليات السوق الحرة وتدخل الدولة في الاقتصاد اذا تطلب الأمر لتحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية لحماية حقوق الفقراء)، فتتدخل الدولة في هذا التوزيع خاصة مع التزايد المستمر في اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، خاصة في الدول الآخذة في النمو مثل مصر. فلماذا إذن لم تتدخل الدولة بشكل قوي ومؤثر حتى الآن، ولم تتحقق أي من الأهداف السابقة بصدق يشعر به الشعب، وخاصة بعد ثورة طالبت بالعدالة الاجتماعية وأهداف أخرى كثيرة أغلبها لم تتحقق بعد. نقلا عن جريدة الأهرام