كلنا يعلم لماذا قامت الثورة ؟ لأسباب عدة, وبطبيعة تخصصي كباحث في علم الاقتصاد, ألقي الضوء علي الشق الذي يقع في دائرة اهتمامي العيش والعدالة الاجتماعية. الأمر الذي كنت أريد أن أراه من أول يوم بعد الثورة علي أرض الواقع ينفذ من خلال الحكومات المتعاقبة والذي يبدأ بكيفية رسم السياسة المالية للدولة الثائرة, والتي تهدف في المقام الأول إلي إعادة توزيع الدخل القومي في مصلحة الفقراء, والتي كان يجب أن تتحصل نتائجها في ضرورة تحقيق هدف واحد تسعي إليه سياسات الدولة من خلال الإنفاق العام والسياسات الضريبية بحيث لا تلغي واحدة منهما الأخري, و يظل الهدف المنشود هو العيش والعدالة الاجتماعية لجموع الشعب المصري. إلا أن حقيقة الأمر في الثلاث سنوات الماضية اللاحقة لثورة يناير اقتصرت مساعي الدولة علي الشق الضربي بهدف رفع الحصيلة النقدية للخزائن في ظل ظروف تدني مستوي الأداء الاقتصادي وانخفاض معدلات النمو. في حين كان من الأجدر أن توجه الدولة الانتباه إلي سياسة الانفاق العام للدولة لتحقيق الأهداف الاجتماعية المرجوة من الثورة, وعليه أفرد هذه المساحة من التوضيح لدور النفقات العامة في إعادة توزيع الدخل القومي لتحقيق التوازن الاجتماعي والنمو الاقتصادي. فالنفقات العامة تنقسم من حيث آثارها المباشرة إلي حقيقية( وهي التي توزع دخل مقابل عمل, والي تحويله) وهي التي تحول جزءا من الدخول القائمة من فئة اجتماعية إلي فئة اجتماعية أخري أقل, أو إلي عامل إنتاج, أو إلي فرع من فروع الإنتاج أو إلي إقليم آخر اقل حظا في الخدمات و الموارد. وهو ما يؤكد أهمية النفقات التحويلية كأداة مالية من خلال تأثيرها في إعادة توزيع الدخل القومي والسعي المباشر وراء العدالة الاجتماعية. ويمكن في هذا الصدد تقسيم النفقات التحويلية الي ثلاثة أنواع وهي; أولها, النفقات التحويلية الاجتماعية, وهي تلك التي تؤدي بلا مقابل, وبغرض رفع مستوي الطبقات المتوسطة والفقيرة. ومثلها الإعانات النقدية للمواطنين والعمال مقابل الأعباء العائلية, أو لمقابلة الغلاء المعيشي, أو تلك التي تمنح للعائلات كبيرة العدد أو تلك التي تمنح لمقابل المرض أو البطالة. وثانيها; النفقات التحويلية الاقتصادية, وهي الدعم الذي يمنح لبعض المشروعات بغرض رفع أرباحها أو بغرض حماية الصناعة الوطنية أو مساعدة الاستثمار العام والخاص لينشط او بهدف دعم الصادرات اوبغرض تخفيض الأسعار لمصلحة المستهلك غير القادر وثالثها; النفقات التحويلية المالية; وهي فوائد الدين العام واستهلاكه. في ضوء هذا التقسيم السابق ننتهي الي أن النفقات العامة للدولة تؤدي إلي تحويلات مباشرة أو تحويلات نقدية, والي أيضا تحويلات غير مباشرة أو تحويلات عينية. وعليه أصبحت النفقات التحويلية تشكل بصفة عامة أداة هامة للغاية من أدوات إعادة توزيع الدخل القومي في البلاد الآخذة في النمو مثل مصر, هذا لأنها بالإضافة إلي ما تحدثه من توازن مجتمعي وتقلص الفوارق بين الطبقات تؤدي أيضا إلي زيادة الناتج القومي ومعدلات النمو الاقتصادي من خلال أثرها المباشر( النفقات الحقيقية) وبالتالي فهي تصب مرة أخري في المساهمة في التوزيع الأول ليكون عادلا في حدود الامكانات المتاحة من الموارد من خلال دفعها للاستثمار و الصناعة والتصدير كما ذكرت, وعليه فهي تفيد العام و الخاص من قطاعات الانتاج المختلفة. وعلي العكس من ذلك يؤدي ضغط النفقات العامة القومية الي خفض مستوي التشغيل وتدني معدلات النمو, ويحدث ذلك من خلال ضغط الإنفاق العام للدولة, أو عن طريق ضغط النفقات الخاصة( نتيجة لارتفاع الضرائب المباشرة) وهو الأمر الذي ننبه إلي ضرورة الابتعاد عنه في الوقت الحالي في مصر في ظل الظروف الاقتصادية الحرجة وانخفاض معدلات النمو بمالايتناسب مع الزياده السكانية وارتفاع معدلات الطلب الكلي. ونخلص من هذا إذن إلي أن النفقات العامة كأداة مالية تمارس أثارا توزيعية في الدخل القومي والي أن هذه الآثار التوزيعية تقسم الي طريقين وهما توفير الدخول ابتداء, أي المساهمة في التوزيع الأول( وهذا ما بجب أن تركز عليه الدولة علي المدي المتوسط والطويل). لأنه الحل الهيكلي الأمثل للمشكلة وللقضاء علي الفقر والبطالة وتقليص الفوارق بين الطبقات, والأثر الثاني يتم عن طريق إعادة توزيع الدخل القومي, أي إدخال تعديلات علي التوزيع الأول لتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية كما سبق توضيحه من دعم وخلافة( إلا أني أري عدم الإفراط في تطبيق هذا المسلك الا في الفترة القصيرة الحالية) علي أن يلقي العبء الأكبر علي الأثر الأول الهادف لتوزيع دخول وزيادة الإنتاج والذي يقع تحت بند النفقات الاستثمارية, وهو الأكثر واقعية في ظل الأوضاع الاقتصادية المصرية الآن, حتي ينعم بثمار الثورة والدولة الجديدة ملايين المواطنين وليس طبقة علي حساب كل الطبقات الأخري كما كان في الماضي البغيض. لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب