من قتل الثوار ؟ قضية جدلية لاتنتهي أبدا من حياتنا اليومية في إطار أجواء لاتفصح الأحداث عن حقيقتها أبدا!! ولعله من أغرب ما استوقفني إبان أحداث شارع محمد محمود هو تلك الصورة التي نشرتها إحدي الجرائد المصرية لبعض صبية يرشقون قوات الشرطة والجيش بالحجارة, بينما وقف عدد من الجنود فوق إحدي البنايات( محلا تجاريا تقريبا أو ربما ورشة) علي بعد أمتار قليلة جدا من المهاجمين, فيما وصفتهم الجريدة باسم( القناصة)!! قناصة إيه؟ أما الموقف الأغرب, فكان حين جالست شخصين محترمين راحا يخوضان في حديث القناصة هذا وراحا يوزعان الاتهامات جزافا علي من استطاعا إليه سبيلا من سدنة النظام السابق, فلما سألتهما عن حدود معرفتهما بأدوار القناصة, كان أن فوجئت بأنهما لايعرفان تحديدا ما هو تعريف القناص أصلا!! فمن هو القناص؟ بحسب التعريف الاصطلاحي للكلمة, هو ذلك الشخص القادر علي القتل بإحكام ودقة متناهية من أماكن( خفية) تقع( علي مبعدة) من الهدف; بما يتعدي قدرات الشخص العادي, وليس هو كل شخص يجيد التنشين!! والقناص نوعان: نوع يسمي الراميMarksman, و يعمل دائما ضمن فريق أساسي ومتكامل من الجنود; و نوع يسمي القناصSniper, ويعمل دائما بمفرده أو ضمن مجموعة من قناصين آخرين. ويستطيع القناص المحترف, وفق الدراسات التي أجريت في هذا المضمار, أن يوجه مقذوفه من مسافات قد تتعدي(2 كيلومتر) وسط حسابات جوية معقدة, وليس أدل علي ذلك من القناص البريطاني كريج هاريسون, والذي استطاع أن يصيب هدفه من مسافة بلغت نحو2430 مترا في أثناء الحرب بأفغانستان فأرداه قتيلا. وحين استضافته محطة تلفاز الBBC أوضح أن أسبابا ثلاثة كانت وراء نجاحه:( انعدام الريح), و( الطقس المعتدل), و( وضوح الرؤية)!! والسلاح الذي يستخدمه القناص ليس كأي سلاح; فهو يتميز بقوة دفع عالية, ومن ثم فمن المحتم أن يتولد عنه صوت مرتفع, فيما يتنافي مع أساس مهمة القناص( التخفي)!! ولذا يحتم هذا الوضع علي القناص أمرين: الأول, هو أن يكثر من التنقل بين أرجاء المكان الذي يقنص منه; والثاني, هو أن يعمل قدر المستطاع وسط( ضجيج صاخب), كمثل أزيز المدافع والدبابات في حالات الحروب; أو تحت هدير الرعد أو( صيحات الناس مثلا) في الحالات( الأخري)!! تلك هي البيئات المثلي لعمل القناص, وإلا انفضح أمره!! وفي هذا السياق, خرج علي العالم منذ فترة محقق صحفي روسي الجنسية يدعي نيكولاي ستاريكوف من خلال كتاب شديد الخطورة أعتقد أن عنوانه هوChaosandRevolutionistheweaponofthedollar( الفوضي والثورة سلاح الدولار), استعرض فيه الدور الرئيسي( الممنهج) الذي لعبته مجموعات من القناصة( التابعين للاستخبارات الغربية) في غمار عدد من الثورات التي اجتاحت بعض بلدان العالم في الفترة من1989 حتي2011, وكذا الدور الممنهج للإعلام الدولي في توزيع التهم جزافا علي المسئولين في تلك البلدان عمدا: فقد أوضح ستاريكوف كيف كشف عدد من مسئولي الاستخبارات الغربية النقاب في فيلم وثائقي بعنوانCheckmate:StrategyofaRevolution تم بثه علي قناة(ARTE) الأوروبية عن كيفية قيام الصحافة العالمية بتضليل الرأي العام في رومانيا عام1989, عندما نشرت الصحف صورا لقناصة( مدعومين من الغرب) موحية بأنهم دليل دامغ علي استخدام الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوشيسكو للقناصة من أجل( قتل أبناء شعبه)!! ولقد تسبب هذا الفيلم( بالمناسبة) في فضيحة مدوية حين تم عرضه بفرنسا; حيث وصفت جريدة لوموند دوبلوماتيك أحداثه ب( أزمة أخلاقية بالغرب تقوده إلي دعم الإرهاب من أجل نشر الديموقراطية)!! كذلك كشف الصحفي الروسي في تناوله للثورة الروسية عام1993, عقب تعرض البرلمان الروسي للتفجير, أن شهود عيان قد أكدوا أن قناصة قد شوهدوا في غمار هذه الأحداث وهم يقنصون المدنيين من مبني ملاصق( للسفارة الأمريكية) بموسكو!! هذا في الوقت الذي نسب فيه الإعلام الدولي عمل هؤلاء القناصة إلي الحكومة الروسية آنذاك!! وفي فنزويلا عام2002, ذكر أن القوي المعارضة للرئيس شافيز قد احتشدت ونظمت مسيرة قوية نحو القصر الرئاسي, فيما اعتلي قناصة مجهولون عددا من البنايات القريبة من القصر وفتحوا النيران صوب المحتشدين, ما أدي إلي سقوط18 قتيلا, وسرعان ما وجهت الصحافة العالمية الاتهام إلي شافيز بأنه( قتل شعبه), فيما تبين بعد ذلك أن الأمر برمته كان مدبرا من قبل الCIA الأمريكية!! وعلي صعيد متصل, وفي مقاله المنشور علي صفحاتAtlanticFreePress في الرابع من يوليو عام2009, نجد الكاتب الأمريكي الشهير ستيفن ليندمان يخرج علينا بمقال كبير بعنوان( الثورات الملونة, الجديدة والقديمة); حيث تناول الكاتب كتابا صدر للصحفي والمؤرخ الأمريكي الألماني فريديريك وليام إنجدولF.W.Engdhal وكان بعنوان( الأطياف الكاملة للهيمنة: الديمقراطية الشمولية في النظام العالمي الجديد), فيوضح الكاتب طبيعة الحرب السرية التي تشنها الولاياتالمتحدةالأمريكية في القرن ال21, والتي تعتمد في قوامها( بحسب الكاتب) علي الإيحاء بعفوية الحركات السياسية المناهضة, بحيث تبدو و كأنها نابعة من الشعوب ذاتها!! وفي هذا الإطار, أوضح الكاتب أن منهجا جديدا عكف الخبراء الأمريكيون علي دراسته منذ عقود وهو منهج مستوحي في الأصل من الحركة البيولوجية للنحل والحشرات فيما يعرف باسم(Swarming) أو الاحتشاد; ويعتمد هذا المنهج علي عدة محاور رئيسية هي: تحديد الهدف, ثم التمركز, ثم الهجوم عليه من عدة اتجاهات, ثم التشتت, ثم إعادة الاندماج, ثم إعادة التشتت.. وهكذا, مع الاحتفاظ بقدر ثابت من الحيوية والقدرة الدائمة علي الالتحام السريع بين المحتشدين إلي أن يسقط الهدف. وقد اعتمد الخبراء(وفق رواية الكاتب) من وحي هذه الخاصية البيولوجية علي أربعة محاور رئيسية في تفعيله وهي: الادوار المشبوهة لمنظمات المجتمع المدني, ثم الإضرابات السلمية, ثم حشد التظاهرات في الشوارع, ثم التعبئة الإعلامية المكثفة عبر الوسائط الإعلامية والاتصالية!! وقد دلل الكاتب علي صحة كلامه بالأسلوب الموحد للثورات الملونة في كل من جورجيا2003( الثورة الوردية) والتي لم تنج من براثن منظمات محددة من بينها: فريدوم هاوس, ونيد, ثم الثورة( البرتقالية) في أوكرانيا عام2004( والتي ضمت نفس المنظمتين السابقتين أيضا); ثم ثورة( الزعفران) الفاشلة في ميانمار عام2007 بعد تدريب للأفراد علي الاحتشاد داخل معسكرات بالولاياتالمتحدة رأسا, بل واعتراف منظمة نيدNED بتمويل هذه الحركات المناهضة إعلاميا!! ثم الثورة( القرمزية) في التبت عام.2008 نحن إذن أمام إشكالية كبري وقودها: الجهل بالتعريف الاصطلاحي للقناصة; وكتابان خرجا من صميم رحم الغرب يفندان مؤامرة كبري يتجرعها العالم بأسلوب واحد بنيت علي أسس خبيثة, ثم غيبوبة كاملة من جانبنا بشأن ما يدور حولنا من تفسير لما نعانيه نحن وليس غيرنا من أحداث, ثم مقدرة غير عادية علي نفي المؤامرة الخارجية كلية( رغم كل الدلائل) في مقابل إيمان غير مفهوم بوجود مؤامرة داخلية( فظيعة) دون دلائل!! و أسأل: ما المانع في أن يكون قتلة شهدائنا قناصة مأجورين( غير مصريين) قاموا بقنص الضحايا عن بعد( مثلما فعلوا في أماكن أخري بالعالم وثبت توراطهم) عبر نوافذ و( أسطح) بنايات( شاهقة) محيطة( كاشفة) لميدان التحرير وغيره في غمار الفوضي التي ألمت بالبلاد آنذاك؟ ولماذا لا يتقدم نواب الشعب بطلب قائمة بنزلاء هذه الفنادق ومن( استأجروا) شققا بتلك البنايات في أوج الأحداث؟ و أخيرا.. ما الفائدة الأمنية التي ستعود علي الشرطة من قنص عشوائي لبعض أفراد وسط حشود محتشدة ؟ سيقولون التخويف.. ماشي, فما هو إذن المكسب الذي عاد علي الشرطة من انتهاج نفس الأسلوب بعدما انهارت الشرطة ذاتها و من بعدها النظام كله إلي الدرجة التي تجعل الشرطة تكرر نفس الخطأ في مواجهات أخري بعد شهور ؟ أي غباء شرطي هذا وأي انتحار وقد وقف مبارك والعادلي لتوهما في الأقفاص بنفس التهمة يواجهون شبح الإعدام ؟ كلام غير منطقي بصراحة!! أنا لا أدافع عن أحد, ولست محاميا عن أحد, ولا أشكك للحظة في نقاء الثوار, ولكنني أؤمن بأن خيطا رفيعا جدا يفصل بين التخوين المبني علي الظن و بين الخيانة.. ولقد تجرعنا كأس الخيانة!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم