على غرار ما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر 2011، تصاعدت حدة العداء للجالية المسلمة فى الولاياتالمتحدة بشكل غير مسبوق خلال الأيام القليلة الماضية فى أكثر من اتجاه على وقع الحرب ضد داعش. وفى الوقت الذى تتشدق فيه الصحف الأمريكية بالديمقراطية والحديث عن الحريات وإعطاء المحاضرات لشعوب العالم فى كيفية الدفاع عن حقوق الإنسان، بدأت تلك العداءات ضد الجاليات المسلمة فى الولاياتالمتحدة بصورة فجة لم تميز بين الداعين للتطرف وجماعات تجنيد مقاتلى داعش من ناحية ، وبين الإسلام المعتدل من ناحية أخري. وقبل أيام، دفعت باميلا جيلر المدونة والناشطة اليمينية المتطرفة المثيرة للجدل مبلغ 100 ألف دولار نظير وضع إعلانات على مئات الأوتوبيسات فى مدينة نيويورك وداخل محطات مترو الأنفاق تحمل رسائل وصوراً معادية للإسلام، وكان من بينها صورة للصحفى الأمريكى جيمس فولي، الذى ذبحته داعش فى أغسطس الماضي. وتم تمويل هذه الحملة من جانب منظمة جيلر للدفاع عن الحرية الأمريكية، وهى ليست المرة الأولى التى تستخدم فيها هذه المنظمة طريقة وضع الملصقات على وسائل المواصلات فى نيويورك، ففى عام 2012 دفعت المنظمة أموالاً نظير وضع مثل تلك الملصقات فى محطات المترو أيضا . والمثير للاستفزاز أن السلطات الأمريكية لم تتصد لتلك الحملة، خاصة وأنها استمرت بفضل حكم قضائى يؤيدها، ولكن ما تم حذفه فقط صورة فولى وتم وضع صورة وهمية بدلا منها لمجرد أن أسرته شكت من أن مشاعرها "جرحت" بسبب هذه الصور، بل وصل الأمر إلى اعتقال كل من حاول طمس هذه الملصقات برش الطلاء عليها أو وضع ملصقات أخرى عليها. وكان السيناتور الجمهورى البارز جون ماكين قد أعرب فى وقت سابق عن قلقه من احتمال تسلل عناصر تنظيم "داعش" إلى الولاياتالمتحدة عبر المكسيك، كما ظهرت تحذيرات أخرى متعاقبة من مخاطر شبكات تجنيد مقاتلين أمريكيين لداعش داخل الولاياتالمتحدة ، أو عودة مقاتلين يحملون جوازات سفر أمريكية لتنفيذ عمليات داخل البلاد، وكل هذه التحذيرات تضرر منها المسلمون الأمريكيون بصفة عامة، لأنه ما زال كثير من الأمريكيين لا يفرقون بين معتدل ومتطرف. وفى وقت سابق من الشهر الماض، أثار جون بانيت، النائب عن أوكلاهوما انتقادات بعد أن كتب على صفحته على موقع فيسبوك يزعم أن "القرآن نص بوضوح على وجوب قتل غير المسلمين" ، وأضاف أنه لذلك يتعين على المسيحيين أن يكونوا حذرين تجاه المسلمين الأمريكيين. فهل حرية التعبير تعنى الإضرار بمبدأ إنسانى آخر وهو حرية العقيدة، وهل معناها الوصول إلى درجة التمييز الصريح ضد فئة من المجتمع؟ فالمشكلة هنا لا تقف فقط عند وضع بعض الملصقات والإعلانات فى الشوارع، لكن المشكلة الأكبر هى مدى تأثير تلك الدعاية المسيئة على المواطن الأمريكى العادي، بدليل أن جرائم الكراهية ضد المسلمين ارتفعت بنسبة 143٪ منذ العام الماضي، وذلك وفقاً لأرقام وحدة جرائم الكراهية فى شرطة نيويورك. والمسلمون فى الولاياتالمتحدة أصبحوا لا يعانون فقط من الوابل اليومى لخطابات وأفعال الكراهية، من خلال التحليلات والصور المزدرية لهم التى تجتاح شاشات التليفزيون ولوحات الإعلانات فى الطرق، بل إنهم أيضًا يخضعون أيضا للرقابة الأمنية التى تتابع تحركاتهم فى الشوارع والمساجد والجامعات، وترصد تجمعاتهم وأموالهم وتبرعاتهم الخيرية، بما فيها البعيدة عن تمويل التطرف، بل وتتجسس عليهم وتقمعهم وتقاضيهم. وكانت هذه الظاهرة أمرا لافتا بعد هجمات سبتمبر، عندما روج معلقون وصحفيون وسياسيون ومنظرون صراحة لخطاب "الإسلاموفوبيا - الخوف من الإسلام - كتبرير أيديولوجى لحرمان عشرات الآلاف من الحريات المدنية، وتكوين ملفات عنهم، والاحتجاز غير القانونى لعدد كبير من المقيمين الشرعيين، والتغاضى عن اختطاف المشتبه فيهم وتعذيبهم، وتشريع التجسس على المواطنين الأمريكيين ومراقبتهم، والإيقاع بهم. لقد أصبحت الإسلاموفوبيا فى الولاياتالمتحدة ، سواء بعد هجمات سبتمبر أو بعد انطلاق الحرب على داعش، مبررًا ثقافيًا مقبولاً لإرهاب المفكرين والباحثين المناهضين للتمييز، والذين لا يؤيد أى منهم الإرهاب أو التطرف، رغم أن الإدارة الأمريكية وقوتها الناعمة الممثلة فى وسائلها الإعلامية تفعل العكس لدى تناولها للشأن المحلى فى دول عدة كالصين وروسيا ومصر وغيرها، فتفتح نيرانها على حكومات هذه الدول لمجرد اعتقال ناشط أو مدون أو قمع مظاهرة أو إصدار قانون يحارب التطرف أو الإرهاب أو الفوضي. فأيديولوجيا الإسلاموفوبيا لدى المجتمع الأمريكى ليست مجرد مصادفة أو جهل، بل يتم تقديمها على أساس الرغبة فى الحفاظ على هيمنة الولاياتالمتحدة السياسية والاقتصادية على الكرة الأرضية بكاملها وتوسيع نطاقها. كما أنها لا تقتصر على جماعات يمينية هامشية، أو على ساحات الجامعات الأمريكية، أو التنظيمات السياسية، التى تحاول تشويه صورة منتقدى سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين والمعارضين لاحتلال الولاياتالمتحدة للعراق وأفغانستان، بل إنها ظاهرة تنسج خيوطها بإتقان منذ ظهور مفهوم العولمة، فما هو حلال على أمريكا حرام على الدول الأخري. ولا شك فى أن اليمين والمحافظين الجدد يلعبون دورا مركزيا فى الإبقاء على معايير الإسلاموفوبيا، سواء فى أوروبا أو الولاياتالمتحدة، ويزودون روايات الليبراليين المعادية للمسلمين بإطار مليء بالافتراءات والفهم الخاطيء المتعمد. وواضح أن هذه الصورة النمطية ستظل رائجة فى المجتمع الأمريكى لعقود طويلة طالما توافرت القواعد الأيديولوجية التى تروج لها باستمرار، وطالما تواترت الأحداث الدولية التى تهيء الرأى العام الأمريكى لذلك ويكفى القول - من باب التشاؤم - إنه حتى ظاهرة التمييز ضد السود فى المجتمع الأمريكى ما زالت موجودة حتى يومنا هذا رغم ما تبذله أفلام هوليوود لتحسين هذه الصورة، بدليل ما حدث فى ميزورى أخيرا، فما بالنا بظاهرة يتم الترويج لها ليلا ونهارا على جميع الأصعدة؟!