صدور طبعة جديدة من رواية دنقلا للعبقرى الراحل ادريس على ايقظت فى النفس كثيرا من الاشجان والاحلام والغضب. أشجان متعلقة بالرجل نفسه وحياته، واحلام متعلقة بدور النقد فى كشف جواهر الأدب، وإزاحة ما يغطيها من تراب وظل ثم اخيرا غضب من تناول المجتمع ومثقفى أهل النوبة لقضية أرض النوبة والتهجير، وحال قراهم الآن فى قلب الصعيد . شاء عملى الصحفى المبكر أن أعيش تجربة التهجير وأن أمضى شهورا فى أرض النبوة القديمة أعايش مجتمعهم فى «بلانة» قرية قرب الحدود الجنوبية قبل أن تغرق فى قاع بحيرة ناصر ثم اصحب عواجيزهم على «البوستة» - المركب الوحيد الذى كان يربطهم بالشمال - فى رحلة العذاب إلى حجيم قرى التهجير الخرسانية فى الظهير الصحراوى لكوم أمبو. كفي هذا موضوع آخر، نقرأ ونحتفى برواية مصرية عن دنقلا وعن الحياة الظالمة التى عاشها أهلنا فى الجنوب هناك وحتى عندما يرحلون للشمال بحثا عن الرزق والعدل والحياة الإنسانية. أدرديس على كاتب فذ - 1940 2010 من مواليد أسوان عاش حياة قاسية بين فقر شديد ويسارية طفولية وتعليم عصامى وموهبة متفجرة وتمرد روحى وإنسانى معذب دنقلا أول رواياته 1993 وإن كان قد بدأ نشر قصصة منذ 1969 فى صباح الخير وروزاليوسف تراوحت الأعمال التى أنتجها بعد ذلك بين تسجيل لرحلة حياة شاقة بين بطالة وخدمة ووظائف متدنية وحياة فى عشوائيات وبلاد على الحدود ومحاولات عمل فى ليبيا على ظهر بواخر كان مكسيم جوركى النداهة التى سيطرت على روحه وقلمه وإن كان فى روايته الشهيرة انفجار جمجمه قد لامس حدود عبقرية ديستيوفسكى الكبير اتكلم بالمقاييس التى عاش بها جيل الخمسينيات والستينيات. أبطاله جزء من حياته يتكلمون لغته ويستعملون مفاهيمه وقضاياه لذلك فلم يكن يكتب عن أقلية نوبية مضطهده لكنه كان يتحدث عن إنسانية متوحشة ظالمة ومجتمع قاهر للفقراء عاذل للنساء حارم لهم من أى حقوق مجتمع تحكمه الخرافة وتسجنه العزلة والفقر أم بطل رواية دنقلا اسمها »حوشية النور« هجرها زوجها لامرأة بيضاء فى الشمال بعد أن انجبت منه ولدا سافر هو الآخر وظلت تنتظره تسع سنوات ضاقت بها القرية وتمنت موتها يقول أدريس على فى قلب دنقلا ملخصا المأسأة الفردية والجماعية ماتت «حوشية النور» ياريت كنا ارتحنا من شؤمها احزان بلاد النوبة وافرادها شرارتها صرخة أو زغرودة أربعين يوما لتقبل العزاء وارتداء السواد وافراح لا تنتهى قبل ليلة الدخلة النساء فى قرى الكنوز لا يغادرن سجون البيوت إلا من زيارات أو مهنئات فيحولن لدعة العقرب لجنازة وعودة الغائب لعرس حقيقى وصرخة حوشية النور جمعتنى للمواساة جلسن حولها معبرات متضامنات جئن بأباريق الشاى وقعدن يبكين وثرثرن لكل واحدة منهن حكاية مع الزمان الغادر عقوق الابناء وهجر الازواج قله الموارد قروش الشئون الزهيدة التى لا تفى حاجة رضيع السحب على المكشوف من دكان الحاج أحمدعباس ودفتره الحافل بمن لا يسددون. طبعة دنقلا الجديدة صدرت ضمن مختارات الكرمة دار النشر الجديدة التى جددت حتى الآن 12 عملا من عيون الأدب المصرى خلال العقود الأربعة الأخيرة لكى تعيد اصدارها فى طباعة نظيفة انيقة جديرة بالحفظ والمتابعة واختيار دنقلا لادريس على كواحدة من أوائل هذه المختارات دليل على ادراك الدار الجديدة لمعادلة صعبة بين مسئولية النشر واعتبارات النجاح. لمزيد من مقالات علاء الديب