يشكل المجال العربى اليوم، ساحة لحروب لن تضع أوزارها إلا بعد أن يُقضى على الدولة الوطنية فى شكلها الراهن، سواء من الجماعات الإرهابية، التى اختارت تهديم الأبنية الداخلية بحجج واهية، أو الدول الغربية التى أسهمت، ولا تزال، فى نشوء تلك الجماعات، أو توفير بعض الأنظمة العربية بيئة لمواصلة الجماعات الرافضة أعمالها الإجرامية.. وإذا سلمنا بهذا الأمر، فإننا مطالبون بالاستعداد للمرحلة المُقبلة، والعمل من أجل الخروج منها أو على الأقل التخفيف من تبعاتها السلبية. مؤشرات كثيرة فى عدد من الدول العربية تؤكد تحسن الأوضاع الاقتصادية، وهناك معالجات جادة وواعية للمسائل الأمنية مصحوبة بمحاولات سياسية للخروج من الأزمة حتى لو اقتضى الأمر اشعال النار أو تأجيجها فى دول شقيقة، إضافة إلى اتخاذ قرارات حاسمة يسعى أصحابها إلى الإطعام من جوع أو الأمان من خوف، غير أن تلك المؤشرات والمعالجات والقرارات لا تُمثّل حلولا حاسمة لمشكلات الفوضى الغربية غير الخلاَّقة فى دولنا، مادامت كل دولة عربية تتحرك بعيدا عن شقيقاتها، بل إن بعضها يعتقد أن الحفاظ على وحدته واستقراره يمر عبر التضحية بدولة شقيقة، مستعملا التدخل العسكرى ومتحالفا مع الآخر الغربى عند الضرورة. هنا نتساءل: ألاَ يُشكّل بعض التجارب العربية فى ظل أزمة الدم والفتنة مدخلا أو على الأقل أملا ومسعى للخروج من الأزمة الحالية؟.. الإجابة هنا ستكون بنعم المشروطة بصدق النوايا ونبل المقاصد ووضوح الأهداف، وهذه جميعها غير موجودة، فى الظاهر على الأقل، فمثلا أنَّى لنا أن نصدق ما تقوم به قيادات عربية كثيرة وهى تحاول حماية الدولة القطرية على حساب الأمة العربية، مع أنها تدرك، وبناء على تجارب سابقة، أن الدولة القطرية مهما كبرت وأوتيت من قوة لا يمكن لها التعمير طويلا، خاصة حين يتعلق الأمر بالاستقرار والقيادة، بعيدا عن الأمة. وإذا كان الركون إلى الحاضر، بعيدا عن تجاربنا فى الماضى القريب أو البعيد، لجهة الاعتقاد بأن تعمير أى دولة عربية إلى أجل طويل، البعض يربطه بقيام الساعة، مرتبطا بالحفاظ على قوتها الذاتية، الأمر الذى يحمل بعض الصواب وليس كله،فإن إقامتنا فى الأندلس ستة قرون انتهت برحلينا المخزى والمحزن والمؤلم، أليس فى ذلك عبرة لمن أراد أن يتذكر أو يحول دون تربص الأعداء بنا؟.. ثم لماذا لا نقرأ كيف استعمرت معظم الدول العربية فى القرن الثامن عشر؟، وكيف تحررت فى القرن العشرين؟، وبين الاحتلال والاستقلال تطورت الأمم وتحكمت فى مصيرنا من جديد، وهاهى اليوم، ونحن معها، تعمل من أجل سلب ما تحقق بعد عقود وتعيد احتلالنا، مع فارق واحد هو رضانا هذه المرة، وتأكيد قابليتنا للاستعمار وللتخلف. لنعيد تأمل المشاهد العربية منذ قيام الانتفاضات الشعبية ضد الحكومات فى تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، ربما يساعدنا ذلك على فهم ما يحدث اليوم فى أوطاننا وخاصة فى العراق وسوريا المرشحتين لاستمرار الحرب لسنوات طويلة الأمد. فى تلك المشاهد التى لا تزال مشتعلة إلى اليوم وإن اختلفت درجة الاشتعال من دولة إلى أخرى نرى ملامح لانهيار كلى للدولة القطربة، قد ينتهى فى كثير من الدول العربية، فى أجل أقصاه عشر سنوات منذ انطلاق الانتقاضة، إلى التقسيم او الاستعمار الجديد القائم على فكرة أن الشعب والجيش فى كل دولة عربية هما وقود نار الحرب الأهلية، ويمكن لنا التوقع من الآن تساقط الدول العربية تباعا، أو على الأقل ظهورها فيشكل جديدا يلغى ما كانت عليه، أو يتناقض مع مفهوم الوحدة الوطنية، ودليل ذلك هو التوتر فى شبكة العلاقات الاجتماعية، والصراع المتواصل لدرجة العنف الدموى على مستوى الجبهة الداخلية. هنا لا نطرح مخاوف، أو رؤى زاغ البصر وضل فيها العقل وهوى فيها الفؤاد، أو أننا « نرى الشوك فى الورود ولا نعمى أن نرى فوقها الندى إكليلا كما يقول الشاعر إيليا أبوماضي»، بحكم أن هناك تجارب عربية قطرية تعمل من أجل تجاوز المحنة الراهنة، والعمل من أجل التأقلم مع الأوضاع الدولية.. ليست مخاوف أو ضعف رؤية ولا شكوك، ولكنها وقائع وأحداث تصنع حاضرنا ومستقبلنا، لم يعد ينفع معها الاتكال على حل قطرى مهما تكن جدية وصدق القائمين عليه، وما أكثرهم هذه الأيام لكنهم قلة مقارنة بجماعات الإرهاب والفساد والفتنة. بناء عليه يمكن القول: إن المخاطر المحدقة بالعرب مصدرها اليوم جهات كثيرة، من أهمها: أعداء يتريصون بنا، نتحالف معهم اليوم من أجل استعمارنا من جديد بعد إفلاسنا السياسى والعسكري، وجماعات إرهابية تختلف مع معظم العرب حول الفهم الصحيح للدين، وجماعات فساد أغرقتنا فى الوحل، وصُنَّاع قرار فى حال من السفه والعمى السياسي، وتخلف متراكم لعقود تكرسه بعض عناصر النخبة.. الخ. ترى من أين نبدأ؟ وكيف التغيير؟.. ليس لنا إلا نستعير من الفيلسوف الراحل» زكى نجيب محمود»: عنوان كتابه» مجتمع جديد أو الكارثة»، لكن مع تغييركلمة مجتمع، ليصبح عنواننا وهدفنا» أمة عربية جديدة أو الكارثة»، ولتفصيلات هذا الموضوع حديث آخر.