الدولة الوطنية في العالم العربي قلقة مما يحدث داخلها, متوجسة من نصائح الخارج, وحذرة من ضغط الداخل لتحقيق مطالب بعضها تعجيزي, ومتخوفة من تحويل الأدوار والمهام من ذلك مثلا, المسار الخاص بطلبة الجامعات, الذين تحولوا من ساعين إلي سبل العلم بنهم لا يعرف الشبع, إلي طلاب ثأر ودم بعد تأثير قوي وتنظيمات وجماعات علي مسار حياتهم الدراسية.. تري أين تتجه الحركات الطلابية في الوطن العربي, خاصة في مصر وتونس بعد أن تداخل العمل السياسي للجماعات الدينية بالدراسة؟ لا يمكن تقديم إجابة قاطعة, ما أن الأحداث والمعطيات تبدو كاشفة, لكن بالنسبة لي, فأنا أتابع بحزن وألم ما يحدث في بعض دولنا العربية من قتل وتدمير للمؤسسات وقضاء علي قيم التعايش والتعاون, وأري أن الأيام المقبلة لم تعد حبلي بمفاجآت باتجاه الخير, وتتضاءل مساحة التفاؤل من جيل جامعي لميع دوره الحقيقي, لجهة اكتسابه للعلم والمعارف والأخلاق, أو أن يكون وريثا لجيل سبقه في ستينيات القرن الماضي وما بعدها, حيث كان للطلبة دورهم الفاعل رغم الصراع السياسي والأيديولوجي القائم بينهم, وأيضا بالرغم من تأثير القوي السياسية الخارجية بما فيه المحظورة, أو تلك الأخري التي تعمل في الظلام لصالح قوي داخلية أو خارجية. لاشك أن حركة الطلبة في الجامعات العربية كانت امتدادا لحركة الطلبة في العالم كله, خاصة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية, وبدرجة محدودة كان لها تأثير علي صانع القرار, واستفاد هذا الأخير من تحريكها, في الغالب,من أجل تنفيذ سياسة بعينها أو استراتيجية يراها في المصلحة العامة, ونجد ما يؤكد ذلك في تجربة مصر الناصرية, وتجربة الجزائر البومدينية, وفي هذه الأخيرة تحديدا فجر بومدين ما أطلق عليه الثورة الثقافية أسند أمرها للطلبة, كما نجد تجارب تقترب أو تبعد من التجرتين السابقتين في دول عربية أخري مثل: السودان, وتونس, واليمن, وسوريا, والعراق, والمغرب.. الخ. وإذا كنا لا ننكر أن أعمال الحركات الطلابية العربية قد اتسمت بالعنف في بعض الأحيان, ووصلت أحيانا إلي سفك الدماء, كما هي الحال في الصراع الذي قام داخل أروقة الجامعة المركزية في الجزائر العاصمة خلال فترة السبعينيات بين التيارين الفرنكفوني والمعرب, أو بين الإسلاميين مدعومين من التيار الوطني وبين اليساريين( الشيوعيين خاصة), وقد وقع مثلها في الجامعات التونسية, إلا أن تلك ظلت حالات فردية لم تتمكن من التعميم أو الإستمرارية لقوة الدولة الوطنية وقدرتها علي حسم الاضطرابات الاجتماعية, وملكيتها المطلقة لقرارها, ناهيك علي أن نشاط الطلبة كان يتم تحت إشرافها وبإيعاز منها. في ذلك الوقت أيضا كانت الدولة العربية تملك المشروعية بجانب الشرعية, ناهيك علي أن الصراع داخل الجامعات, لم يتعد الخطوط العامة, والسياسات الكلية, والتوجهات المشوبة بالحذر أحيانا, وأيضا كان تأثير جماعات الإسلام السياسي محدودا, إما لقضاء حوائج تلك الجماعات في السر والكتمان تحضيرا لدولة المستقبل المنظور التي ستأتي بها عواصف بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين, وإما خوفا من امتلاك الدولة الوطنية للعنف المبرري قانونا, أولسبب آخر أهم يتمثل في الرفض الاجتماعي لقيام الطلبة بأدوار أخري غير تلك الخاصة بالعلم والدراسة. هنا, علينا ألا ننسي أن معظم المجتمعات العربية في ذلك الوقت كان حديث عهد بالاستقلال, ما يعني أن التعليم كان أولوية لمعظم الأسر, يضاف إلي هذا كله أن الدولة الوطنية كانت تملك أجهزة ووسائل صناعة الرأي العام, علي ما فيها من نقص وانعدام الحريات. واليوم, حين ننظر إلي الحاضر أو نتوقع المستقبل ومن خلفنا مرآة عاسكة للماضي في الراهن, أو في الآني, بل في اللحظات المعدودة من أعمار دولنا نري أن طلبة العلم في الأمس القريب تحولوا إلي طلاب دم, وكأن لديهم ثأرا لدي الدولة والمجتمع, والمثال الصارخ اليوم في مصر, خاصة في جامعة الأزهر يشكل لدينا خوفا وقلقا وأرقا ونذير شؤم, إذ ما علاقة شرعية السلطة بتدمير الجامعات أو الاعتداء علي الأساتذة أو استعمال العنف من الزملاء, ومنعهم بالقوة من الدراسة. قد لا يكون الكثير من الطلبة علي وعي بما يقوم به, ولكن الخطورة في نظري ليست في انعدام الوعي أو ضبابية الرؤية, ولكنها في اعتبار ذلك الفعل الطلابي مشروعا, بل واجبا شرعيا يصل إلي درجة الجهاد, ومواجهة سلطة ظالمة سيتم تكفيرها إن انهارت الدولة, أو عجزت عن مواجهة بؤر العنف والإرهاب, والتوتر, تلك البؤر التي تتوالد كل يوم بشكل يوحي بصعوبة مواجهتها في المستقبل المنظور. صحيح أنه لا يمكن تعميم الحالة الراهنة, لأنه هناك بالمقابل طلبة كثر يرفضون, عمليا, تحويل الجامعات من حرم مقدس للعلم والمعرفة إلي وكر للجريمة, ويواجهون الظلامية الجديدة بصدور مفتوحة, ومنهم من سقط ضحية, لكن كيف لهم أن يستمروا في المواجهة في ظل مناخ عام للعنف, وفي ظل انتصار أصحاب المشروع الدموي, الذين تمكنوا لأسباب كثيرة من رهن بعض الجامعات أو علي الأقل توظيف طلابها لصالح رؤيتهم ضيقة الأفق؟. أمام وضع كهذا, وبعيدا عن الوصف والتحليل, نتساءل: ما العمل؟.. الإجابة تأتي من فعل سياسي حاسم, يدعم من النخبة وقادة المؤسسات, وعامة الشعب, لمنع تحول الطلبة عن مسارهم الحقيقي من طلبة علم إلي طلاب دم, علي ألا يتم ابعادهم من المشاركة في العمل الوطني العام, بما في ذلك التأثير في صناعة القرار. لقد انتهي زمن تقديم المبررات لكل فعل تدميري يعيدنا إلي الوراء, وإذا اقتضت الضرورة أن تكون الجامعات تحت إشراف مباشر لوقت محدد ولأجل مسمي من المؤسسات الأمنية والعسكرية, فليتحقق هذا الفعل من أجل الصالح العام.. ليعلم الطلبة أنهم أكبر من الأحزاب السياسية, وأصغر بكثير من أساتذتهم, وليسوا مطلوبا منهم الوقوف لهم تبجيلا فقط, وإنما العمل بقيم الخير التي استقوها منهم, وتطاولهم علي أساتذتهم. بداية لاختلال التوازن, وانهيار الأخلاق, وإيذان بحرب لا أري أنها ستضع أوزارها في القريب العاجل. كاتب وصحفي جزائري لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه