منذ أن تم عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي, وما تبع ذلك من أحداث عنف متفرقة خاصة في سيناء, ركزت معظم التحليلات السياسية والتقارير الإخبارية وكثير من التوقعات علي أن مصر ستئول في نهاية المطاف إلي ما عاشته الجزائر منذ22 سنة خلت. أي حين تم توقيف المسار الانتخابي الذي فازت فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالأغلبية البرلمانية في الدور الأول, وكانت مؤهلة للفوز وتشكيل الحكومة في الدور الثاني, وما تبع ذلك من أعمال عنف دامية أدت إلي مقتل ما لا يقل عن200 ألف, وتحطيم مؤسسات الدولة الجزائرية. واسقاط ما حدث في الجزائر علي مصر رؤية غير مؤسسة, ولا تؤيدها المعرفة الكلية لطبيعة الشعبين والبلدين والأكثر من هذا النظامين, بدءا من الجانب الدستوري, مرورا بالمواقف السياسية وانتهاء بالفعل الاجتماعي. فطبيعة الشعب الجزائري مثلا, تقوم في ميراثها التاريخي من الناحية السياسية علي التمرد عن سلطة الدولة المركزية, في حين الميراث السياسي للشعب المصري, علي الجهة المقابلة, يثبت مفهوم الدولة المركزية والاعتراف والتسليم بما هو قانوني, ولذلك لم يكن غريبا أن يدور الحديث, في وسائل الإعلام وفي مؤسسات الدولة وبين أواسط الشعب, خلال السنتين الماضيتين حول القضايا القانونية المتعلقة بالشرعية. وعلي خلفية ذاك الحديث القانوني في مصر, الذي تميز بالجدل حينا وبالحوار حينا آخر وبالمشاحنة والشطط أحيانا كثيرة, طرحت علي المستوي العربي عدة استفهامات من أهمها: هل الشعب المصري كله يحمل ثقافة قانونية؟ وهل يمكن له أن يسقط حكم الإخوان المسلمين بقوة القانون؟ وما حدود الشرعية, قانونيا وسياسيا ومشروعية بقاء الدولة والأفراد والجماعات؟..الخ, وقد جاءت إجابة تلك الأسئلة قاطعة حاسمة كما عايشنا في الثلاثين من يونيو الماضي. إذن الثقافة القانونية علي ما فيها من جدل وتأويل وتلهية, غير مقصودة, للشعب المصري في صخب يومي, أتت أكلها بما لم يكن متصورا في بعده الخاص, انطلاقا من التلاحم بين الشعب والجيش, في حين لم تكن تمثل أية أهمية لدي الجزائريين في تجربتهم, إذ باستثناء قول الإسلاميين: أننا أصحاب حق, وكان الشعب مؤيدا في أغلبه لهذا الحق, لم نلحظ سجالا قانونيا, بل أن الدولة في شقها النظامي والسلطوي أنشأت منظومة جديدة للحكم, من ذلك مثلا تعيين مجلس وطني انتقالي من أحزاب صغيرة وأخري دينية. البداية إذن ليست واحدة في الدولتين, والنهاية لن تكون واحدة أيضا, ذلك أنه في الوقت الذي حمت فيه جموع الشعب في المدن والقري والأرياف الجماعات الإسلامية, التي قررت أن تأخذ حقها بقوة الرصاص في الجزائر, ودعمتها لسنوات وكانت معها علي الأقل في السنوات الأولي علي قلب رجل واحد, نجد العكس في مصر تماما, فما قام به الجيش المصري يمثل مطلبا شعبيا علي الأقل من الغالبية العظمي. وبالطريقة الجزائرية الحاسمة, حتي لو كانت بتكلفة عالية, أوقفت المؤسسة العسكرية الخطر الزاحف, وواجهته بالقوة, وكانت تؤسس لذلك انطلاقا من تأييد شعبي, وحين دخلت الحرب وطال أمدها وأصبح من الصعب أن تضع أوزارها دون نتيجة حاسمة وفاصلة, تخلت عنها القوي السياسية, بل منها من تحالف مع جماعات العنف أو مع الدول الغربية للضغط علي النظام الجزائري أنذاك. أما في مصر الآن, فإن فعل المواجهة من أجل استقرار الدولة مؤيدا شعبيا بأغلبية كبيرة, وبحماسة من دول عربية, وبغض الطرف من دول غربية والتزام أخري الصمت, لكن لم نلاحظ رفضا لما قام به الجيش المصري علي الصعيد الإقليمي العربي أو الدولي, باستثناء أنظمة ذات علاقة حميمة بجماعة الإخوان المسلمين, مثل حكومة حماس في غزة, أو حكومة النهضة في تونس, أو حكومة طيب أردوغان في تركيا. تلك إذن, حالة أولي تبين الفرق بين التجربتين, وهناك حالة أخري تتعلق بطبيعة التنظيمات الإسلامية في البلدين, فالجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر, لم تكن تنظيما سياسيا وحيدا يحمل رؤية سياسية قاطعة, وإنما هي جبهة ضمت جماعات برؤي مختلفة لإنشاء الدولة. والنتيجة كانت انهزام هذا الفكر علي المستوي الفكري وعلي المستوي السياسي أيضا, وبالرغم من أن التكلفة كانت باهظة, إلا أن بقاء الجزائر في حال من العنف وفي فوضي دائمة, كان أخطر بكثير مما انتهت إليه. أما في مصر فإن حجة التيار الإسلامي داحضة كونه مارس السلطة وإن في زمن قليل,وبدت عوراته في وضح النهار وفي دجي الليل, وعم الشعب المصري الخوف من غياب الأمان أو الخوف من الجوع, ناهيك علي قيام سلطة ذات رؤية دينية, تعيد مشهد الفرعون وتجسيد مقولته: لا أريكم إلا ما أري. وهذا كله أدي إلي شبه اجماع حول إنهاء مشروع فكر بشري بلباس ديني, وكان الحل في أن القوة للمجتمع تأتي من أمرين, الأول: التجمع حول هدف واحد, والثاني: الاعتراف بل والاستنجاد بالجيش لحماية الدولة من انهيار وشيك, ما يعني أن الحالة المصرية يمثل فيها الجيش بداية في الحماية بناء علي طلب شعبي, وفي الجزائر يمثل النهاية حماية وقوة وانقاذا للمجمتع الجزائري. مسألة أخري تكشف عن فروق جوهرية بين الحالتين الجزائرية والمصرية, وهي عامل الزمن فيما يتعلق بحركة المجتمعات العربية, فإذا كانت الجزائر في تسعينيات القرن الماضي, مثلت بداية لتغير في المنطقة العربية جاء بعد انهيار الاتحاد السوفياتي, فإن ما يحدث لمصر اليوم يعد نهاية لفشل ما يعرف بالربيع العربي من ناحية الممارسة الديمقراطية. في النهاية يمكن القول: أن مصر وبناء علي المعطيات السابقة ليست الجزائر ولن تكون.. لقد كانت الجزائر البداية في المواجهة مع الإسلام السياسي, ولذلك جاءت تكلفتها باهظة, ولم يحمها آنذاك لا دعم دولي ولا مواقف تأييد ولا حتي علماء يفندون الإرهاب. لذلك ولغيره من العوامل الأخري, لن يكون للعمل الإرهابي في مصر تأثير, إلا في حدود ضيقة, ليس فقط لأن المعطيات الدولية تغيرت, ولكن لأن رؤية المصريين, أغلب المصريين, للحياة الراهنة وللمستقبل تغيرت, وأن الجيش المصري مطلوب من البداية, وليس انتظار حمايته للشعب في النهاية. كاتب وصحفي جزائري لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه