فى مقال الأسبوع الماضى عرضت للكتاب البديع الذى أصدره عالم الدراسات الاجتماعية الراحل الدكتور سيد عويس وعنوانه هتاف الصامتين: ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى المعاصر، فى أعقاب بحث ميدانى على مدى ثلاث سنوات (سبتمبر 1967 - أغسطس 1970)، وكان صدور الكتاب فى مستهل سبعينيات القرن الماضى مثيرًا لاهتمام واسع بين المهتمين بالدراسات الاجتماعية ذات الطابع الأنثروبولوجى من ناحية، وللمفكرين والمثقفين والقراء من طلاب المعرفة والثقافة من ناحية أخري. كما عرضت لما اكتشفه الدكتور سيد عويس - فى بداية الأمر - باحثًا عن أسلوب جديد لمواجهة المجهول فى مجتمعنا المصرى المعاصر، عندما لاحظ ما يكتبه أصحاب السيارات والأتوبيسات واللوريات والعربات، وما يكتبه سائقوها من كلمات وعبارات على هياكلها أو يعلّقونه من أشياء معينة درءًا للحسد أو طلبًا للرزق، أو سعيًا للوقاية من المجهول. وقاده البحث الميدانى - فى إحدى عشرة محافظة من محافظات مصر إلى جمع ألف كلمة وعبارة من خمسمائة مركبة تجوب الآفاق شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا وتتحرك على امتداد مدن مجتمعنا المصرى المعاصر وقراه. ولما كانت هذه الكتابات مكتوبة بمحض إرادة أصحابها ودون إجبار من أحد - محاولين أن يهتفوا ويُسمعوا أصواتهم للآخرين من غير أن يراهم أحد - كما يفعلون عادة فى مواقف الصلاة والدعاء وحلقات الذكر وفى المساجد والكنائس والمعابد وفى ملاعب الكرة والملاهى والحفلات الغنائية والمباريات الرياضية وغيرها، فإنها بمثابة الجهاز الإعلامى الشعبى الذى اصطنعوه - بدون وعى أو قصد - ليصبح واحدًا من أجهزة التنشئة الاجتماعية التقليدية مثل الأسرة والمدرسة والمنظمة الدينية والنادى الاجتماعى الثقافى ووسائل الإعلام كالجريدة والمجلة والكتاب والسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون. وقد كشف بحثه الميدانى - الذى حدث لأول مرة - عن مضمون بعض الكلمات وبعض عبارات الأشكال الشعبية الذى يحتوى على بدايات أغنيات مصرية أو أجزاء من الأغانى أو أسماء لها، وهى أغنيات معروفة وشائعة، يرددها المغنون المصريون أو العرب عن طريق الإذاعة أو التليفزيون أو فى الحفلات والمناسبات من مثل: أبو سمرة السكرة، اتمخطرى واتمايلى يا زينة، ادلع يا رشيدى على وش المية، أراك عصى الدمع شيمتك الصبر، أروح لمين، اسأل روحك اسأل قلبك قبل ما تسأل إيه حيرني، أعطنى حريتى أطلق يديا، أقولّك إيه عن الشوق يا حبيبي، أكثر من مرة عاتبتك واديت لك وقت تفكر ، الحب كده، الطشت قال لي، العتبة جزاز، القلب معاك، الهوى هوايا، أَمَّا نعيمة نعمين، أمل حياتي، إنت الحب، إنت عمري، أنساك ده كلام، للصبر حدود، أهل الهوى مظاليم، أهل الهوى يا ليل، بتبص لى كده ليه، بتلومونى ليه، بعيد عنك حياتى عذاب، بلاش أسيّة ارحم عنيّة، تراعينى قيراط أراعيك قيراطين، جانا الهوى جانا، جددت حبك ليه ، حديث الروح للأرواح يسري، كايدة العزال أنا من يومي، حلو وكداب، حيارى مظلومين، دارت الأيام، دوّبنى دوب يا هوي، ساكن قصادي، سالمة يا سلامة، سهران لوحدي، سواح وأنا ماشى فى البلاد سواح، سواح وأنا ماشى على الطريق سواح، سوق على مهلك، طوف وشوف، عاشق جمال النبي، عطشان يا صبايا، عودت عينى على رؤياك، عين الحسود فيها عود، غلاب الهوى غلاب، فوق الشوك مشانى زماني، كل الناس حلوين، كلمونى تانى عنك، للصبر حدود وأنا صابر، م القلب للقلب رسول، م الموسكى لسوق الحميدية، وغيرها. وواضح من هذه النماذج أن نصيب أم كلثوم من عبارات الأغانى الحديثة هو أوفى نصيب (ثمانى وأربعون عبارة من أربع وتسعين عبارة ) يليها عبد الحليم حافظ (عشر عبارات)، يليهما عايدة الشاعر (ست عبارات) ثم ليلى مراد وليلى نظمى (ولكل منهما خمس عبارات)، كما ضمت النماذج عبارتين لكل من محمد عبد الوهاب ومحمود شكوكو ومحمد عبد المطلب وفايزة أحمد وشادية. وعبارة واحدة لكل من نجاة وصباح وسيد درويش ومحمد قنديل وفرقة رضا ومحمد رشدى ومحمد طه وعبد الغنى السيد ومحمد أمين وفهد بلان. فإذا ما انتقلنا إلى التعبيرات الشعبية المكتوبة على هياكل هذه السيارات وجدنا أنها سبع وخمسون تمثل 24% من مجموع عبارات الأشكال الشعبية، والمقصود بها الكلام العادى الذى يعبر به الإنسان المصرى عندما يتحدث مثل: آخر طريقك فين؟ وإدينى من وقتك ساعة، أو نصيبى كده، أو حلوة صلاة النبي. بالإضافة إلى ما تضمنته الدراسة من مثل: آخر جنان، العب مع غيري، النبى تبسّم، إنت اللى فيهم، أهى جت كده، بص وشوف، حصوة فى عين اللى ما يصلى على النبي، حلوة يا بنت والنبي، حمال الأسية، خلى تكالك على الخالق، خلّيك على كيفك، خليها على الله، خمسة وخميسة، ربنا عاوز كده، سيبها لله يعمل ما يريد، كده شربات، كده يا عين، ما تبصليش بالشكل ده، ما تبصليش بعين ردّية وبصّ للى اندفع فيّه. ويفرد الدكتور سيد عويس الفصل الخامس من كتابه لمضمون عبارات الأشكال الدينية وكلماتها وتشمل: الدعوات والابتهالات، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وآيات من الكتاب المقدس، وهذه نماذج وردت فى العينة من كل هذه الأشكال: صلى على النبى واذكر الله، شالله يا سيدنا الحسين، صلى على طه الرسول، رضاك يا رب، توكلت على الله، بحمد الله شاكرين، قاصد كريم فى سبيل لقمة العيش، كدة رضا من الله، يا رب سلّم، ادخلوها بسلام آمنين، اذكر ربك إذا نسيت، الله ربي، الله لطيف بعباده، الله نور السموات والأرض، الله يسمع ويري، الفتنة أشد من القتل، إن مع العسر يسرا، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، له ملك السموات والأرض، ما شاء الله ، وأفوض أمرى إلى الله، وبشّر الصابرين، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إذا سألت فاسأل الله. فى ختام كتابه يشير المؤلف إلى الكشف عن إحدى فئات الصامتين فى المجتمع المصرى المعاصر، ينبغى علينا أن نقرأ هتافاتهم وأن نتأملها وأن نصغى إلى ما تحمله من شكاوى ومطالب وأهداف، وتعبير عما يعيشونه ويعانونه، أو ما يتطلعون إلى تحقيقه وبلوغه. لقد اختار هؤلاء أسلوبًا ديمقراطيًّا فى رفع أصواتهم لمخاطبة الحاكم والشعب معا، وهناك فئات كثيرة - غير هذه الفئة - فى أشد الحاجة إلى أن نلتفت إليها - حاكمين ومحكومين - حتى لا يتحول الهتاف الصامت إلى انفجار معلن وجلجلة صاخبة. ولقد كان للعالم الراحل الدكتور سيد عويس، فضل الريادة فى اختيار موضوعه، منهجًا وطريقة بحث موضوعية أمينة، والكشف عن أصالة الشخصية المصرية وعما تتميز به من روح وقيم إيجابية، وما يعترض مسيرتها من أمور سلبية. وما زلنا - بعد أربعين عامًا من صدور هذا الكتاب - بحاجة إلى تأمل هتاف الصامتين والإصغاء لما يتضمنه هذا الهتاف من تعبير عن قيمهم، وعن أفراحهم وأتراحهم، ومكابداتهم وعذاباتهم ومطالباتهم بالعدل والمساواة. لمزيد من مقالات فاروق شوشة