في 12/ 2/ 1985 عقدتُ ندوة في القاهرة دعوت إليها نخبة من المفكرين المصريين تحت عنوان «الدين والاقتصاد». وكان اهتمامي بهذه العلاقة قد بدأ منذ ديسمبر 1974 عندما حررتُ افتتاحية ل«ملحق الفلسفة والعلم» الذى كنت أشرف عليه بمجلة «الطليعة» وكان عنوانها «التتارية والفكر المستورد» جاء فيها أن ثمة ظاهرة طافية، على سطح مجتمعنا المصري على التخصيص ومجتمعنا العربي على الاطلاق، فى حاجة إلى تحليل وتأويل وهى ظاهرة ثنائية البُعد: بُعد اقتصادي وبُعد أيديولوجي. البُعد الاقتصادي يتمثل في بزوغ ما سميته «الرأسمالية الطفيلية» ومن دلالتها تجارة الخلسة فى سوق الاستهلاك والوسطاء الذين يغرقون الأمة بسلع الترف المستوردة بالمشروع وغير المشروع، وإن شئنا الدقة، اكتفينا بغير المشروع. والبُعد الأيديولوجي يدور على خطر ما يسمى ب «الفكر المستورد» بدعوى الحفاظ على القيم والتقاليد وما ورثناه عن الأقدمين. ومحصلة البُعدين تتارية بالضرورة لما هو معروف عن التتار أنهم التزموا أمراً واحداً: «تدمير حضارة الانسان». وبعد ثلاثين عاماً من تحرير ذلك النص، وبعد عشرين عاماً من عقد ندوة «الدين والاقتصاد» صدر فى عام 2003 كتاب لمفكرة ايطالية اسمها لوريتا نابليونى عنوانه «الجهاد الحديث» تناولت فيه الدين والاقتصاد والارهاب، ثم صدر فى عام 2004 تحت عنوان «الارهاب مندمجاً». والسؤال اذن: ماذا يعنى الجهاد الجديد فى الطبعة الأولى، وماذا يعنى الارهاب مندمجاً فى الطبعة الثانية؟ استعانت نابليونى بكل من هنتنجتون وفوكوياما للجواب عن ذلك السؤال، إذ قد حاولا فهم الاقتصاد الجديد للإرهاب من أجل توضيح معنى الجهاد الجديد. الرأى عند هنتنجتون أن عداوة العالم الإسلامي للاستعمار الثقافي والاقتصادي للغرب مردود إلى تدعيم ذلك الاستعمار للأنظمة الاسلامية المعادية للديمقراطية. ثم تطورت العداوة إلى ارهاب. وقد أسهم سببان فى إحداث ذلك التطور. السبب الأول مردود إلى الصراعات الدينية والقبلية والعرقية بين المجتمعات الاسلامية من جهة وبينها وبين المجتمعات غير الاسلامية من جهة أخرى. والسبب الثاني مردود إلى الانفجار السكاني في العالم الإسلامي. وترتب على ذلك كله أن نشأ صراع بين الاسلام والغرب. أما الرأي عند فوكوياما فهو على الضد من رأى هنتنجتون، إذ يرى أن الصراعات الحديثة من افراز ظاهرة التحديث الغربية التي دفعت الدول الاسلامية إلى تحقيق الديمقراطية، مثال ذلك ما حدث مع «خومينى. فقد قرر إجبار النساء على لبس» الشادور ومع ذلك وافق على منحهن حق التصويت. والسؤال بعد ذلك: ما العلاقة بين الارهاب الإسلامي وهاتين الرؤيتين فى رأى نابليونى؟ فى رأيها أن حركة الاخوان المسلمين التى نشأت فى عام 1928 بقيادة حسن البنا هى السبب فى تصور هذه العلاقة، فقد استعار البنا العنف المسلح من الفاشية الايطالية. وسايرتها فى هذه الاستعارة حركة الجماعة الاسلامية التى أسسها أبو الأعلى المودودي فى باكستان عندما تأثرت بمفهوم الطليعة الثورية لدى الماركسية. ومن هنا يمكن القول بأن جذور الارهاب الإسلامي الجديد كامن فى التحديث وفى صراع الحضارتين الاسلامية والغربية. إلا أن نابليونى تقف على الضد من هاتين الرؤيتين لكل من هنتنجتون وفوكوياما، إذ الارهاب الإسلامي، فىرأيها، مثله مثل أية قوة ثورية، مجرد آلة تحركها طاقة خاصة ومتميزة هى الجهاد الحديث. والمفارقة هنا أن الاقتصاد الذى يؤدى دوراً فى تدعيم الجماعات الاسلامية المسلحة ينبع من ايديولوجيا الحركات الاسلامية الثورية القديمة التى كانت متجذرة فى الايديولوجيا الغربية. ولا أدل على ذلك، فى رأيها، من أن عبادة الاستشهاد لدى حسن البنا متأثرة بالتيار الفوضى الفرنسي والإيطالي الذى كان سائداً في القرن التاسع عشر. بل إنها تذهب إلى أبعد من ذلك وتقول إن الجذور الفكرية للفاشية والنازية والشيوعية هى التى تلهب الجهاد وذلك بدعوته إلى ضرورة إعادة توزيع الثروة لصالح الجماهير الفقيرة. إلا أن ذلك الاقتصاد هو بدوره حديث مثل الجهاد لأنه اقتصاد غير مشروع يتعامل مع المخدرات وغسيل الأموال وتجارة السلاح. ومع ذلك فالمفارقة هنا أنه دخل فى علاقة عضوية مع الاقتصاد المشروع وهو اقتصاد الدولة إلى الحد الذى فيه أصبح من المحال فك هذه العلاقة. أما إذا حدث ما هو محال فإن الدولة تنهار. والمفارقة هنا أيضا أن نابليونى انتهت إلى ما كنت قد انتهيت إليه فى عام 1974 من لفت الانتباه إلى ظاهرة «الرأسمالية الطفيلية» التي قالت عنها نابليونى بأنها الاقتصاد الجديد. أما مسألة الارهاب الجديد، فى العالم الإسلامي، فهو مردود إلى بزوغ الأصوليات الدينية فى منتصف السبعينيات من القرن العشرين والتي ارتأيت في حينها أنها فى اتجاه الدخول فى علاقة عضوية مع الرأسمالية الطفيلية. وعندما تحقق الدخول اندفعت الأصوليات الدينية إلى مرحلتها العليا وهى الارهاب الذى تمثل فى أحداث 11/ 9 التي أدت إلى تدمير مركز التجارة العالمي بنيويورك. وإذا كان ذلك الارهاب متجذراًفي الأصولية الدينية واذا كانت الأصولية الدينية مندمجة مع الرأسمالية الطفيلية، فكيف يمكن انقاذ الحضارة من الارهاب؟ هذا هو السؤال وهو سؤال على غرار سؤال شكسبير: أن تكون أو لا تكون؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة