ورد إلى ذهنى عنوان هذا المقال وأنا أقرأ كتاباً لمفكر أمريكى اسمه بنيامين باربر ( 1939) عنوانه الرئيسى «الجهاد ضد عالم السوق الاستهلاكي» وعنوانه الفرعى «تحدى الجهاد للديمقراطية». والكتاب صدر فى عام 1995 ثم صدر فى عام 2001 بمقدمة تحت العنوان الفرعى للكتاب، وذلك إثر أحداث 11 سبتمبر. ومن هنا جاء السطر الأول من المقدمة على النحو الآتي: «فى 11 سبتمبر تم تتويج حرب الجهاد ضد عالم السوق الاستهلاكى بتدمير لا مثيل له مصحوباً بدهشة مذهلة لمعبد الاستثمار الحر بنيويورك (يقصد مركز التجارة العالمي) وكاتدرائية القوة العسكرية الأمريكية بواشنطن (يقصد البنتاجون). وفى رأى باربر أنه مع تلك الأحداث فان العالم يدخل فى مرحلة جديدة هى حرب ضد عدو خفى الأمر الذى يشى بأننا لن نفهم الصراع بين الجهاد وعالم السوق الاستهلاكى على أنه صراع عسكرى إنما على أنه صراع يستلزم الالتزام بالديمقراطية والعدالة. كما أننا لن نفهم ذلك الصراع على أنه صراع بين حضارات أو صراع ثقافى بين الديمقراطية والاسلام، أو صراع بين «الغرب وما تبقى» على حد تعبير صموئيل هنتنجتون، إنما على أنه صراع داخل حضارة واحدة بسبب أن عالم السوق الاستهلاكى الكوكبى أصبح مهدداً لتراث دينى يقال عنه إنه تراث أصولي. ومن هذه الزاوية فان الأصولية لا تقف عند حد الدين الإسلامى إنما تتجاوزه إلى الأديان الأخرى. ولا أدل على ذلك من أن القس جيرى فولول الأصولى المسيحى يقول: «إن لعنة الله حلت على أمريكا بسبب انحيازها لمشروعية الإجهاض والشذوذ الجنسى والحريات المدنية». هذا عن مقدمة طبعة 2001، أما عن مقدمة الطبعة البريطانية فى عام 2003 فالمفارقة هنا أنه بالرغم من أن ذلك الكتاب قد تُرجم إلى أكثر من عشرين لغة إلا أن الطبعة البريطانية لم تصدر إلا فى عام 2003. والسؤال اذن: ما السبب؟ تاريخياً ثمة علاقة حميمة بين بريطانياوأمريكا، وتاريخياً أيضا فإن الحرية وُلدت فى بريطانيا فى عام 1215، أى فى العام الذى صدر فيه «الميثاق العظيم». وفى القرن التاسع عشر حذَر الفيلسوف البريطانى والأب الروحى لليبرالية جون ستيوارت مِل من خطورة المجتمع الجماهيرى الذى كان سبباً فى نشأة عالم السوق الاستهلاكي. ومع ذلك فإن ثمة فصلاً مهماً فى ذلك الكتاب يمكن أن يقدم إجابة مقنعة لذلك السؤال المحيَر. وعنوان ذلك الفصل: «حقيقة الجهاد: «الاسلام والأصولية» حيث يرفض فيه باربر القول بالترادف بين الاسلام والجهاد، ويؤثر عليه القول بأن التوتر بين الديمقراطية والجهاد مردود ليس فقط إلى الأصولية الاسلامية إنما أيضاً إلى الأصوليات أيا كانت سمتها الدينية، إذ هى كلها تناضل ضد الحاضر باسم الماضي، كما تناضل من أجل الدفاع عن رؤيتها الدينية الكونية ضد العلمانية والنزعة النسبية. ومن هنا فإن الجهاد لن يكون ملمحاً اسلامياً بل ملمحاً أصولياً يعم جميع الأصوليات. وهنا يشير باربر إلى «المشروع الأصولي» الذى صدر بقرار من الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم فى عام 1988 تبنته جامعة شيكاغو بالتنفيذ وصدر فى خمسة مجلدات ضخمة عن الأصوليات فى جميع الأديان وعن كيفية تفكيرها فى جميع مجالات الحياة. وقد صدرت تلك المجلدات ابتداء من عام 1991 حتى عام 1995، أى بمعدل مجلد فى كل عام. وتأسيساً على ذلك كله فإنه يمكن القول بأن الفكرة المحورية فى كتاب باربر هى أن الجهاد لفظ مجاز يستخدم للدلالة على معاداة الغرب ومعاداة الكوكبية. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: هل الثقافة الاسلامية هى وحدها التى أفرزت ذلك المجاز؟ من استطلاع الرأى يتضح أن الأمم الاسلامية لم تجرب الديمقراطية، إذ هى قد أزاحتها جانباً بعد عدة تجارب فاشلة. فعندما فاز الأصوليون فى الجزائر فى الانتخابات صدر قرار جمهورى بإلغائها. وفى مصر ليس ثمة ديمقراطية. وحتى ما تبقى من حريات فقد تم الغاؤها لانشغال الحكومات المصرية بسحق الأصوليين الأعداء. وحتى الكويت بعد أن تحررت من الغزو العراقى ليس لديها ديمقراطية. وفى باكستان وأفغانستان والسودان أصبحت الأصولية قوية إلى الحد الذى توارت عنده الديمقراطية. أما حلفاء أمريكا مثل السعودية والامارات والأردن فهى دول تزعم أنها ديمقراطية وهى تحارب الأصوليين. ومن هنا يقال إن الأصولية فى الشرق الأوسط مشهورة اليوم بعداوتها للعلمانية. ومن هنا فإن الأصولية أقوى من العلمانية التى تزعم أنها قادرة على سحق الأصولية والانحياز للتطلعات الغربية. إلا أن المفارقة هنا تكمن فى أن الأصولية التى تزعم أنها ضد التسلط لم يكن فى إمكانها تأسيس الديمقراطية. والرأى عندى أنه إذا كانت الديمقراطية هى معضلة العالم الإسلامي، وإذا كانت الديمقراطية جماهيرية بالضرورة فالجماهير اذن هى الأساس ومن ثم فإن علمنتها لازمة ومطلوبة لأن العلمانية بحسب تعريفى هى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق أما الأصولية فهى التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبى. وإذا كان لفظ «معضلة» الوارد فى عنوان ذلك الكتاب يعنى فى اللغة العربية الطريق الضيقة المخارج، وإذا كان الفعل «عَضل» هو جذر معضلة ويعنى أن الأمر اشتد واستغلق، وعَضل عليه يعنى ضيق عليه وحال بينه وبين مُراده فإن معضلة العالم الإسلامى هى فى أضيق الحدود الاختيار بين الأصولية والعلمانية وليس ثمة اختيار آخر. لمزيد من مقالات مراد وهبة