الرأى عندى أن إشكالية العالم الإسلامى هى إشكالية القرن الحادى والعشرين. وإذا كانت الاشكالية تنطوى على تناقض فما هو التناقض الكامن فى العالم الإسلامي، وفيما بينه وبين العالم غير الإسلامي؟ وإذا كان التناقض على ضربين: تناقض حاد يستلزم إقصاء أحد الطرفين، وتناقض رخو يستلزم تفاعل الطرفين من أجل رفع ذلك التناقض، فأى تناقض هو الذى يحرك العالم الإسلامي؟ أستعين فى الجواب عن هذين السؤالين بكتاب صدر للمستشرق البريطاني- الأمريكى برنارد لويس فى عام 2002 وعنوانه الرئيسى « ما الخطأ فى المسار»؟ وعنوانه الفرعى « الصدام بين الاسلام والحداثة فى الشرق الأوسط». إلا أن سؤال العنوان الرئيسى لازمه سؤال آخر فى ثنايا الكتاب: مَنْ الذى فعل ذلك الخطأ؟ والذى دفع لويس إلى إثارة سؤال العنوان مردود إلى أن العالم الإسلامى كان يقود الحضارة الانسانية لعدة قرون ولم يكن يتصور أن له منافساً فى هذه القيادة. فالصين كانت بعيدة ومجهولة، والهند كانت فى طريقها إلى أن تكون دولة إسلامية. وإذا قيل بعد ذلك أن العالم المسيحى كان هو المنافس الحقيقى للعالم الإسلامى بدعوى أن لديه إيماناً مصحوباً بقوة فالإسلام خاتم الأديان وقوته من قوة الله. اذن ما الخطأ فى المسار؟ الخطأ كامن فى أن العالم الإسلامى قد استعار التكنولوجيا من الغرب بعد أن انتزع منها القيم الثقافية الكامنة فيها والتى هى قيم عصر النهضة وعصر التنوير. ويقال عن قيم هذين العصرين معاً أنهما قيم الحداثة، إلا أن الغرب لم يخترعها لكى يزهو بها، إنما اخترعها استجابة للمتغيرات الحضارية. ومن هنا لا يمكن القول بأن الغرب هو الذى ارتكب الخطأ بسبب استعماره للعالم الإسلامي. والأصوب، فى رأى لويس، القول بأن ذلك الخطأ هو السبب وليس النتيجة، أى يُسأل عنه العالم الإسلامى نفسه. والسؤال بعد ذلك: كيف يزيل العالم الإسلامى ذلك الخطأ؟ هل بالعلمانية؟ جواب العالم الإسلامى بالنفي، ولويس يؤيد هذا الجواب وحجته فى ذلك مماثلة لحجة العالم الإسلامى وهى أن العلمانية ظاهرة غربية وغير صالحة لاستعارتها، إذ هى لازمة فى العالم المسيحى بحكم الآية الواردة فى الانجيل ونصها: « اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» بمعنى أن قيصر يختص بالأمور السياسية والله يختص برعاية الأمور الدينية. وعندما اختلط ما لقيصر مع الله نشبت الحروب الدينية، فى أوروبا، لمدة ثلاثة قرون. أما فى العالم الإسلامى فقد فشل الحكام الذين فرضوا الحكم السياسى على الدين مثل الخليفة المأمون، وكذلك فشل العثمانيون عندما فعلوا ما فعله المأمون. وسبب ذلك الفشل مردود، فى رأى لويس، إلى أن العلماء أو بالأدق الفقهاء هم رجال دين بالمعنى الاجتماعى وليس بالمعنى الديني، إذ ليس ثمة كهنوت فى الاسلام على غرار المسيحية، إنما ثمة شرع الله هو الذى يحكم وهو لا يتغير. ومع ذلك فإن علمانية الثورة الفرنسية قد أصبحت مهددة للعالم الإسلامى عندما أحدثت تأثيراً فى حركات الاصلاح الديني، بل كانت هى السبب فى اشتعال الثورة الايرانية فى عام 1979 التى استعادت شرع الله المفقود. ولكن المفارقة هنا تكمن فى أن الثورة الايرانية وهى فى حالة تأثر بالعلمانية قد أفرزت الأصولية الاسلامية التى أعلنت أن عدوها ليس الاستعمار أو الشيوعية إنما المواطنون العلمانيون. وأظن أن برنارد لويس قد جانبه الصواب فى قوله بوجود تناقض حاد بين الاسلام والعلمانية بمعنى لزوم إقصاء أحدهما للآخر. إلا أن المسألة، فى رأيي، ليست كذلك لأن العلمانية، فى أصل نشأتها، مرتبطة بنظرية دوران الأرض حول الشمس التى أعلنها العالم الفلكى البولندى نيقولا كوبرنيكس فى كتابه المعنون « عن حركات الأفلاك». فدوران الأرض تستلزم الحركة، والحركة تعنى التغير، والتغير يفرض على العقل أن يكون نسبياً فى أحكامه، ومن ثم يمتنع عن التفكير بالمطلق ويقنع بالتفكير بالنسبي. أما إذا توهم العقل أنه قادر على قنص الحقيقة المطلقة فعندئذ يعادى أية حقيقة مطلقة أخرى تبدو متناقضة. ومن شأن ذلك أن يدخل العقل المالك للحقيقة المطلقة فى صراع مع المطلقات الأخرى بحكم أن المطلق واحد ويرفض التعدد، وبالتالى فان ذلك المالك هو بالضرورة إرهابي. وإذا كان السؤال: « ما الخطأ فى المسار»؟ فان الجواب هو توهم التناقض الحاد بين الاسلام والعلمانية. وإذا كان السؤال: مَنْ هو الفاعل الذى ارتكب ذلك الخطأ؟ فالجواب هو الأصولية الاسلامية. إلا أن لويس لم يلتفت إلى ذلك الجواب إنما التفت إلى جواب آخر هو فقدان الحرية، حرية العقل من القيود التى تمنعه من التساؤل والبحث، وتحرير الاقتصاد من الفساد وسوء الادارة، وتحرير المرأة من قهر الرجل. واسترداد الحرية هو الطريق إلى الديمقراطية. ومن غير ذلك فالإرهاب هو مستقبل شعوب منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: اذا كانت الحرية هى الطريق إلى التقدم فلماذا هى غائبة؟ واذا كانت غائبة فمن هو الفاعل؟ والجواب فى الحالتين مرهون بالأصولية الحاضنة للإرهاب. لمزيد من مقالات مراد وهبة