كما كان مؤتمر شمال كارولينا الذي عقد في عام1988 محاكمة للمحافظين الجدد في مجال الفلسفة كذلك كان مؤتمر تونس الذي عقد في نفس ذلك العام تحت رعاية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ولكن ليس لمحاكمة تيار فلسفي معين إنما لمحاكمة المسئول عن افراز التيارات الفلسفية برمتها وهو العقل العربي, أي نقده من حيث هو الذي أفرز وضعا فاسدا عليه هو نفسه مجاوزته, الأمر الذي يستلزم نقد هذا الوضع الفاسد نقدا عقلانيا من أجل تأسيس مشروع حضاري عربي يتناغم مع مسار الحضارة الانسانية. فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن العقل العربي في مأزق. والسؤال اذن: ما هو هذا المأزق؟ أظن أن المفكر علي أومليل أستاذ علم الاجتماع بالجامعة المغربية و السفير الأسبق إلي كل من مصر ولبنان كان علي وعي بهذا السؤال, ومن هنا يكون جوابه جديرا بالتنويه من أجل الكشف عن أبعاده. فماذا كان جواب أومليل؟ إنه يثير في جوابه إشكالية النص الديني وهي علي النحو الآتي: إذا كان المقدس مطلقا واذا كان الواقع المتغير نسبيا فكيف يمكن للمطلق أن يحكم النسبي من غير أن يتلوث بخصائص النسبي؟ وكيف يمكن للنسبي أن يكون محكوما بالمطلق من غير أن يتأثر بخصائص المطلق؟ واذا كان ذلك كذلك فإشكالية النص المقدس تكمن في أن المطلق يمكن أن ينزلق إلي النسبي, وفي أن النسبي يمكن أن يرقي إلي مستوي المطلق. ويري أومليل أن المفكرين المسلمين كانوا علي وعي بهذه الاشكالية فحاولوا رفع التناقض الكامن فيها وذلك بتأسيس مبحث اسمه أسباب نزول الآيات القرآنية. وقيل في ذلك الشأن أن هذه الأسباب هي في الوقت نفسه من التاريخ وفوق التاريخ. هي من التاريخ بمعني أنها وقعت في فترة معينة, ولكنها تعالت بعد ذلك علي التاريخ فأصبحت أجوبة نهائية. وهكذا أقفل باب تجديد السؤال, وبالتالي تجديد الجواب لأن الجواب قد نطق به مرة واحدة وإلي الأبد, وحمله نص له السلطة المطلقة علي كل الأزمنة اللاحقة. ومع ذلك فان المفارقة هنا تكمن في أن السلطة المطلقة للنص قد أفرزت اختلافا منذ السلف الأول, إذ ادعي كل مفكر بأنه وحده العليم بكنه النص الديني وأن خصومه ليسوا مجرد أناس اختلفوا معه, بل هم المخالفون للنص. وهذا هو ما يسميه أومليل التطرف الديني أو الطغيان. ومعني هذه التسمية أن للطغيان فقاءه وفي مقدمتهم القاضي النعمان بن محمد الذي كان قاضي القضاة في الدولة الفاطمية. ويري أومليل أن القاضي أو الفقيه الطاغية مازال حيا في هذا الزمان ومتجسدا فيما يسمي الجماعة الاسلامية. وأنا هنا أوثر لفظ الأصولية علي لفظ التطرف الديني علي نحو ما هو وارد عند أومليل لأن لفظ الأصولية مشتق من الأصول. واذا اتسمت الأصول باليقين المطلق فان العقل الإنساني يصاب بالدوجماطيقية التي تعني توهم امتلاك الحقيقة المطلقة. ومن ثم تصبح اشكالية العقل العربي تكمن في هذا التناقض بين الواقع والوهم. فالواقع الذي نحياه هو نسبي بالضرورة لأن العقل الإنساني الذي يحياه هو نسبي أيضا. ولهذا فليس من المشروع أن يقفز العقل من النسبي إلي المطلق, أي عليه أن يظل متحركا في مجال النسبي. ومن هنا جاء تعريفي للعلمانية بأنها التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق. وبهذا المعني للعلمانية نشأ الاصلاح الديني في أوروبا وتم تتويجه بعقلانية التنوير التي أفصح عنها الفيلسوف الألماني العظيم عمانوئيل كانط في مقاله الشهير المنشور في عام1784 والمعنون جواب عن سؤال: ما التنوير؟ وكانط له عبارة مشهورة ومأثورة في ذلك المقال: كن جريئا في إعمال عقلك, وكان يعني بها أن العقل سلطان ذاته. وهكذا تحققت العلاقة العضوية بين العلمانية والعقلانية, بمعني أن العقلانية تستلزم العلمانية, أي لا عقلانية بلا علمانية. ومن هنا جاء عنوان بحثي العقلانية العربية والعلمانية. والسؤال بعد ذلك: اذا لم تتوافر هذه العلاقة العضوية فماذا يحدث؟ يولد القاضي النعمان بن محمد. وفي مجال الفلسفة كان اسمه الإمام الغزالي والكتاب الملازم لشهرته عنوانه تهافت الفلاسفة, وقيمته التاريخية تكمن في أنه كان تعبيرا عن نهاية الفلسفة في العالم الإسلامي, إذ فيه كفر الغزالي الفلاسفة المسلمين ومن بينهم الفارابي وابن سينا. وجاء ذلك التكفير في مفتتح كتابه بسبب تأثرهم بفلاسفة اليونان من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو, مع أن هؤلاء كان همهم الأكبر إعمال العقل من أجل اقتناص الحقيقة. ومعني ذلك أن تكفير هؤلاء معادل لتكفير إعمال العقل من أجل التمهيد لسيادة نقيض العقل وهو اللاعقل, وقد كان. وإذا أردت مزيدا من الفهم فاقرأ حكم المحكمة الدستورية العليا في شأن بطلان مجلس الشوري الذي يتولي سلطة التشريع وبطلان قانون معايير تشكيل الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور مصر قبل خمسة أشهر والصادر في9/25/.2013 إلا أن ذات الحكم يقرر امتناع تنفيذه بحكم تصادمه مع المادة230 من الاعلان الدستوري المشار إليه سالفا. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن ذلك الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا هو حكم تاريخي لأنه يصف حالة اللاعقلانية السائدة في زمن الاخوان. لمزيد من مقالات مراد وهبة