قديما قال ابن المقفع: الدين تسليم بالإيمان.. والرأى تسليم بالخصومة فمن جعل الدين رأيا.. فقد جعله خصومة ومن جعل الرأى دينا.. فقد جعله شريعة فى يناير 1952، حُرقت كنيسة السويس. وإن كان بعض الإسلاميين يرفضون تماما قصة الحريق. بعدها ألقى عالم النفس الشهير د.مصطفى زيور محاضرة فى الجمعية المصرية للصحة العقلية عنوانها «سيكولوجية التعصب». قال فيها، وفقا للدكتور مراد وهبة، إن هذا الذى حدث من حرق لكنيسة السويس هو من فعل إنسان متعصب يجنى من فعله كسبا يتلخص فى التنفيس عما يعتلج فى نفسه من كراهية وعدوان مكبوت. غير أن هذا الكسب لا يختلف عما يجنيه المريض نفسيا من سلوكه الشاذ، إذ هو كسب وهمى. المتعصب إذن، فى رأى مصطفى زيور، يمضى حياته فى الوهم. وفى 2011، حُرقت كنيسة إمبابة. وإن كانت الحادثة مدبرة، لكن لا يعقل أن نحمل فلول الحزب الوطنى وحده «أزمة الفتنة الطائفية»، أو «المناخ الطائفى»، فهناك أرض خصبة تطعم الفتنة، تم استصلاحها وتضويبها فى عهد فاسد، لم يهتم إلا بنفسه، فأهمل التعليم والتنوير، واعتمد التفرقة بين الناس، بالتوازى مع فرض قبضة أمنية شديدة على رقاب العباد. لذلك فما حدث أكبر وأشمل من فتنة طائفية. جائز أن يكون حرق الكنيسة، هذه المرة، بعيدة قليلا عن التعصب. لكن ما حدث يحتاج إلى نوع من المكاشفة مع الذات والآخرين. فلا ننكر أن الكنيسة المصرية، التى تبدو ضحية، لعبت دورا جعلها فى مواجهة مع بعض المسلمين، وخلقت للمسيحيين بديلا للمجتمع المصرى، بالتوازى مع هذا ظهر تيار إسلامى أصولى دينى متشدد، مرفوض من بعض المسلمين، وهو تيار لا يقبل الاختلاف؛ لأنه يتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، فأصبح عائقا أمام أمور حياتية عادية. وبالنظر إلى هذا الأمر، نجد أن هناك حلين، لا ثالث لهما. الأول هو الحسم عبر تطبيق القانون على كل من يلعب بورقة الفتنة الطائفية، وهذا حل سريع، والثانى هو طريق التنوير أى إشاعة «سلطان العقل»، والذى يفرض بالضرورة إصلاح التعليم، وتهذيب الخطاب الدينى المسيحى والإسلامى، مع كشف أخطاء كثيرة ارتكبتها الكنيسة المصرية بالتعاون مع أمن الدولة، فى إدارتها لملف إسلام المسيحيات، وهذا حل سيأخذ وقتا. الكل كتب عن الحل الأول السريع، لذلك نتركه جانبا، لندخل مباشرة إلى صلب الحل الثانى، وهو مواجهة التعصب الذى «عشش» فى العقل المصرى، مسلمين وأقباطا. محاضرة د.مصطفى زيور التى ألقاها بعد حريق كنيسة السويس، تؤكد أن هناك جذورا للوهم فى عقل المتعصب، هذه الجذور كامنة فى خضوع الإنسان لسلطة تتحكم فيه فتأمره بأن يكون متعصبا، ويكون أمرها مطلقا، وتنفيذه محتوما بحكم كونه صادرا عن مطلق. وما الذى يمكنه طرد التعصب من العقل؟ يقول الفيلسوف الكبير د. مراد وهبة إن «العلمانية» طاردة للتعصب. لكن إذا كان المتعصب يسير فى اتجاه التخلف فما المضاد الحيوى الذى يمنع المتعصب من ذلك؟ أجاب د.وهبة: «قيل إنه التسامح: ومن هنا صدر الإعلان العالمى للتسامح عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 15 نوفمبر 1993. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: ما التسامح؟. التسامح، لغة، يعنى الموافقة والقبول والتساهل، ويعنى كذلك الجود والكرم والسخاء، ولكن جرى العرف الشائع على أن التسامح يعنى التساهل. والتساهل ينطوى على الليونة، ولكن التعصب يخلو من الليونة فتكون النتيجة تنازل المتسامح للمتعصب فيبقى التعصب ويتوارى التسامح. ومعنى ذلك أن التسامح لا يصلح أن يكون مضادا حيويا للقضاء على التعصب». إذن ما البديل للتسامح حتى نحل أزمة التعصب؟ الجواب عن هذا السؤال، يستلزم البحث عن جذور التعصب تاريخيا. كان العقل اليونانى حرا فى التفكير فى الكون على نحو ما يريد، وكان حرا فى البحث عن الحقيقة من غير معونة من سلطة خارجية، ومع ذلك فقد أحيل بروتاغوراس إلى المحكمة بسبب عبارته المشهورة: «الإنسان مقياس كل الأشياء»: بمعنى أن كل شىء نسبى، وبالتالى ليس ثمة حقيقة مطلقة، ومن ثم ينعدم القول إن الإنسان قادر على امتلاك الحقيقة المطلقة. وكان العقل، فى العصر الوسيط الأوروبى، محكوما بمحاكم التفتيش وأهمها محكمتان: محكمة التفتيش فى إسبانيا ومحكمة التفتيش المقدسة فى روما. وفى الحقبة الإسلامية انقسمت المعتزلة إلى عشرين فرقة، وكل فرقة كفَّرت الأخرى بدعوى أن الفرقة الأخرى تملك حقيقة مطلقة زائفة. قضية المطلق والنسبى، هى مشروع د. وهبة الفكرى، تحدث فيه كثيرا، من خلال حواراته ومقالاته بالمصرى اليوم والأهرام، إلى أن قال فى أحدها: «ان الحل يكمن فى تربية العقل بحيث لا يقبل الوقوع فى الوهم، والوهم المطلوب عدم الوقوع فيه هو الاستعانة بالمطلق فى تناول قضايا الحياة الدنيا فى حين أن هذه الحياة الدنيا نسبية، أما المطلق فليس كذلك. فإذا أخضعت النسبى للمطلق امتنع النسبى عن التطور، وإذا أخضعت المطلق للنسبى تطور المطلق وانتفت منه المطلقية. وإذا كانت العلمانية هى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق فالعلمانية إذن هى الحل. ولكن العلمانية غائبة، كتيار حضارى، عن مصر. المطلوب إذن استدعاء العلمانية».