بالنسبة لى فإن العلمانية هى «لا كنيسة، ولا سلطة فى الدين» وأقبلها بهذا التعريف لأنه لا يتعارض مع الإسلام، بل إن هذا هو ما يدعو إليه الإسلام. ولكن فلاسفة العلمانية الذين يتعمقون فى تعريف العلمانية، وعلى رأسهم الدكتور مراد وهبة يدخلون العلمانية من مدخل آخر، وهو أى الدكتور مراد وهبة- يقول: «العلمانية هى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق» بمعنى أن مسألة العلمانية فى نهاية المطاف هى مسألة خاصة بالعقل، وكيف يفكر وهو يتعامل مع هذا العالم، إنه يفكر بأسلوب نسبى، وبالتالى ليس من حقه أن يفكر على خلاف ذلك فى الأمور التى تخص حياته على هذا الكوكب. وهذا لا يعنى فصل العقل عن السياسة فى ممارسته النظرية والعملية، فالعقل أساس السياسة، بشرط أن يكون العقل محكومًا فى رؤيته السياسية بالمعرفة النسبية وليس بالحقيقة المطلقة، ومعنى ذلك أيضًا أن الرؤية السياسية هى بدورها ممتنعة الارتقاء إلى أن تكون رؤية مطلقة، أما إذا ارتقت إلى المطلق فإنها تشكل نتوءًا فى مسار الحضارة الإنسانية، ولا أدل على سلامة هذه النتيجة مما حدث فى كل العالم العربى والعالم الإسلامى من اضطهاد الرؤى العلمانية. ويرى د. وهبة أن تأسيس الديمقراطية ليس ممكناً من غير تأسيس العلمانية، لأن الديمقراطية فى معناها الأصلى هى «حكم الشعب بالشعب، والحكم بالشعب هو حكم متطور، لأن الشعب فى حالة تطور، والتطور لا يستقيم إلا مع المعرفة النسبية، وبالتالى فإنه لا يستقيم إلا مع العلمانية». هنا، يسير الدكتور مراد خطوة أبعد من «السلطة» لتصل إلى «الدنيا»، وقضاياها ذات الطبيعة النسبية التى لا يجوز التعامل معها على أساس المطلق، بل لابد أن نلف وندور معها ونتكيف مع مختلف العوامل التى تظهر على الساحة بحيث يمكن أن نحل حلاً محل حل آخر، أو نبعد وضعًا لأنه أصبح متخلفاً...إلخ. ولا أرى فى هذا كله تعارضًا مع الإسلام، بل على العكس أرى أنه عندما أقام العلمانية على أساس «النسبية» فإنه اعترف ضمناً بوجود المطلق الذى منه تكتسب النسبية صفتها، والمطلق فى أعلى مستوى هو «الله»، وهذا فى حد ذاته كسب كبير، وفى الحقيقة فإن كل حديث عن نسبية لابد أن ينتهى إلى وجود المطلق. ولكن عندما ننتقل من التجريد الفكرى إلى التطبيق العملى، فإن الطبيعة البشرية تفرض نفسها وتتحكم فى فهم العلمانيين والمتدينين على سواء، بحيث يعزف العلمانيون عن الاعتراف «بالمطلق» أو يعمدون إلى تجاهله، أو يرون أن أثره إنما يكون شأناً خاصًا بكل واحد على حدة دون أى أثر على المجتمع، كما جعلت المتدينين يقحمون الله بصورة مباشرة فى كل أوضاع المجتمع، مع أن هذا أمر بعيد عما يريده الله، فقد جعل الله تعالى للإنسان كوكبًا هو الأرض ليكون خليفة له عليه، وعلمه الأسماء كلها (مفاتيح المعرفة)، وزوده بالعقل والضمير والإرادة، وأنزل لمعونته كتبه ورسله، وتركه حرًا حرية تامة فى الاختيار، وتقبل موقف الذين «إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً» (الفرقان: 73)، وبذلك جمع الإسلام ما بين المطلق، وهو الله تعالى، والنسبى، وهو الإنسان، وفى الدين نفسه وضع العقيدة التى تمثل المطلق وما ينبغى له من ثبات وحفاظ، ووضع الشريعة وهى الأحكام الخاصة بالأوضاع الدنيوية التى تتطلب المرونة والحركة والتطور، وفى عهد عمر بن الخطاب حدث ما يمكن أن يُعد تعارضًا ما بين النص المقدس ومتطلبات تطور جعل النص لا يحقق ما أنزل من أجله وهو العدل والمصلحة رغم أن العهد كان قريبًا، فقد كان هناك نص فى القرآن يعطى «الْمُؤَلَّفَة قُلُوبُهُمْ» حظاً من الزكاة، وطبق الرسول وأبوبكر ذلك، ولكن عمر بن الخطاب وجد أن النص على هذا المصرف إنما كان لاستئلاف بعض شيوخ القبائل، لأن الإسلام كان ضعيفاً وفى حاجة لتأييدهم، ولكن الإسلام أصبح فى عهد عمر بن الخطاب قويًا، فانتفت العلة التى من أجلها نزل النص، ولذلك لم يصرف لهم شيئاً، كما أنه لم يطبق حد السرقة فى عام المجاعة...إلخ، وبهذا حطم فكرة أن المطلق الذى يمثله النص القرآنى لا يمكن أن يتطور وأن من الممكن أن يعدل لكى يحقق الهدف الذى أُنزل فيه، لأن هذا النص وإن كان فى القرآن فإنه كان بصدد شىء من الشريعة التى جعلها قابلة للتعديل إذا تطلب التطور ذلك لكى يقوم بما أنزل من أجله، وهذا الاعتراف بالتطور هو النسبية بعينها، أما الأمر الذى يمثل المطلق الذى لا يتغير فهو ذات الله تعالى، والإيمان به يمثل تماسك المجتمع وحفاظه، والحيلولة دون أن تسيطر عليه الانشقاقات أو المغامرات أو غير ذلك مما يبدو لبعض الحكام أو المفكرين أو غيرهم. ووجد من كبار الفقهاء الحنابلة فى القرن الثامن الهجرى من يقول إنه إذا تعارض نص مع المصلحة أخذنا بالمصلحة وأولنا النص، وهو حكم لا يقتصر على حاله ولكنه يضع مبدأ عامًا. على أن المطلق نفسه (الله تعالى) أوضح أنه رغم قدرته التى لا حد لها، وأنه «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ» (غافر : 19)، وأنه أقرب إلى الناس من حبل الوريد...إلخ، فإنه لا يحكم عبثاً، ولكنه وضع «أسسًا وسنناً» لإدارة الكون ولإدارة المجتمع البشرى، وكتب على نفسه فضلاً وكرمًا الالتزام بها، فقال : «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (الأنعام : 12)، وقال : «لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد : 11)، وقال : «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا» (المنافقون : 11). إن الله تعالى ترك للإنسان إدارة مجتمعه، وهو لا يتدخل فى هذا، ولكن يحاسبه عليها فى اليوم الآخر. من هنا فإن كل تصورات العلمانيين عن زحف المطلق على النسبى لا مكان لها فى الإسلام، لأن العلاقة ما بين النسبى (الإنسان) والمطلق (الله) إنما تتم طبقاً لنواميس وأسس تتمشى كلها مع أفضل ما تنتهى إليه العقلانية. وقد دلل الدكتور مراد وهبة على كلامه فى الفقرة التى استشهدنا بها بما قوبل به أصحاب الرؤى النسبية، أى أصحاب الرؤى العلمانية، من اضطهاد فى العالمين العربى والإسلامى، ولكنه هنا يخلط ما بين «المسلمين» و «الإسلام»، ولا يحكم على الإسلام بسيرة المسلمين الذين يمكن أن يضلوا بعشرات الأسباب ولكن يحكم على الشعوب بالإسلام، وحل هذا اللغز أن المسلمين لأسباب عديدة شغلوا عن القرآن الكريم وعن الرسول العظيم، وأخذوا بأقوال المفسرين والفقهاء والمحدثين، ومن الطبيعى أن يكون تقليديًا خاصة بعد إغلاق باب الاجتهاد من ألف عام. من ناحية أخرى، فإن اعتبار أن العلمانية هى تطبيق النسبى، يتضمن بالفعل وجود المطلق الذى منه كسبت العلمانية نسبيتها، فإغفاله تمامًا كأنه غير موجود هو إخلال بطرف المعادلة والطرف الأهم فيها، وهذا أمر لا يستقيم، وهو السبب قى قيام ما ينغص صفاء الحضارة الأوروبية، بل ما يتهددها بما نسميه الانتحار النووى، ومن الخير لها أن يلحظ المطلق. حول التعليقات: لا تزال التعليقات كما هى على موقع «المصرى اليوم»، هناك من يقدمون تعليقات غير لائقة لا تدرجها «المصرى اليوم» فى القائمة، ولكن تشير إليها، وهناك تعليقات مخالفة تندد بأننا لا نلتزم بكلام الأئمة الأعلام، وهناك تعليقات موافقة ومعجبة، وأنا حزين لأن عدد التعليقات غير اللائقة كبير، مما يدل على تدنى مستوى المعارضة. إن السب والشتم لم يكن ولن يكون من خلائق المؤمنين، أما التعليقات المخالفة فأنا أدع أصحابها للتطور فهو وحده الذى سيحكم بيننا، أما التعليقات الموافقة فهذا ما يجعلنى آمل فى المستقبل، فحيثما يتصارع الباطل والحق، السلب مع الإيجاب.. فإن الانتصار سيكون للحق وللإيجاب، ولا يخالجنى ذرة من شك فى أن هذا ينطبق علينا، ولكن بعد حين. ما يثير حيرتى أن بعض المعجبين يستثنون رأينا فى أن تدخين السجائر لا يبطل الصيام، فليس هناك ما هو أبسط من هذا الاجتهاد، ففى الإسلام التحريم والتحليل وقف على الله تعالى ولا يمكن أن يشرك معه أحد، وهذا كلام الرسول نفسه، كما أن الأصل فى العبادات التوقيف فلا زيادة ولا نقص فيما وضعه الشارع، فهل جاء فى القرآن أو عن الرسول نهى عن التدخين؟ بالطبع لا، لأن التدخين لم يكن معروفاً، هل اجتمع كل المجتهدين ليصدروا إجماعًا بأن التدخين يفسد الصيام؟ لم يحدث بدليل أن ابن عابدين من الحنفية، وأن الشيعة كلها تبيحه، على أن رأى المجتهدين ليس ملزمًا إلزام القرآن وإلا لأصبح فى مستوى القرآن، ومن الناحية العملية فالإنسان له قناتان.. قناة تنفسية تنقل الهواء عن طريق الأنف أو الفم إلى القصبة الهوائية فالرئة، وقناة هضمية يدخل منها الطعام والشراب من الفم فالمرىء فالمعدة، والدخان لا يدخل فى القناة الهضمية. وبعد كل هذا، فقد قلت إن من يستطع الامتناع والصيام فهذا أفضل، أما من لا يستطيع فيلجأ إلى النوم أو التسالى، أو لا يمارس عملاً فإن من الأفضل له أن يدخن ثلاث أو أربع سجائر. وهذا بملاحظة مستوى الرأى العام، أى أنه تصرف فى مرحلة انتقالية. وحكاية أن السجائر ضارة وأن مقاومتها تدخل فى الصيام كنوع من ضبط النفس فهذا حسن، ولكنه لا يكون تشريعًا.