د. صبري السيد في تصريحات متعددة وصلت للطم الخدود وشق الجيوب أعلن مجموعة مما يسمون أنفسهم " علمانيين " تلقيهم رسائل تهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور من جهة غير معلومة على اختلاف أماكنهم ووظائفهم وكان آخرها ما أعلنه أحد كتاب روزاليوسف من أنه تلقى نفس التهديد من ذات الجهة غير المعلومة . أثارت هذه التصريحات في نفسي موضوع العلمانيين العرب وكيف وصل بهم الحال إلى هذا الحد من التهافت ، لم يبق إلا الصياح والعويل بعد أن تأكدوا من فشل مشروعهم الذي أنفقوا من الوقت والمال والجهد لنشره والدعوة إليه ما لايمكن حصره ، لم يبق إذاً إلا استدرار عطف الجماهير المنصرفة عنهم بطريقة لاتنتمي للعلمانية والتنوير وتحكيم العقل بل هي إلى الفعل الغوغائي أقرب ، إنني ومن باب الإشفاق عليهم أحب أن أستعرض أسباب فشل مشروعهم الذي امتد لأكثر من مائة عام - والذي هو بعمر المشروع الصهيوني تقريبا - بمحاولات مستميتة لغرس هذا المشروع الغريب عن حاضر الأمة ومستقبلها وتاريخها .لقد انعكس هذا الشعور بالفشل على النخبة العلمانية كما اعترف بهذا التراجع الباحث " عادل ضاهر " بقوله: "ان العلمانية في حالة تراجع كبير في العالم العربي اليوم، والقوى العلمانية يتقلص ويتهمش دورها وتأثيرها الفاعل على الاحداث باطراد متزايد" في مقابل "الانتعاش الكبير الذي نشهده للحركات الاسلامية المسيسة للدين وفي انتشارها الواسع بين شرائح اجتماعية وطبقية متعددة". وفي محاولة لكشف أسباب هذا الفشل رغم المبذول من جهد ومال ووقت ، أقول : • أولا : تعريف العلمانية: اختلفوا في تحديد تعريف معين أو مفهوم واضح للعلمانية - أكرر هنا بعد أكثر من مائة عام - من القول أن العلمانية هي" فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية " من غير تحديد ماهية هذا الدين الذي يتوجب فصله ، هل هو الإسلام أم المسيحية أم البوذية ، أو كتعريف " سلامة موسى" " تقييد دور الدين في تشكيل الوعي الإنساني، فالتقدم هو الدين الجديد للإنسانية " ، أو كتعريف الدكتور "برهان غليون " حين يقول:"والعلمانية ليست شيئا غير اعادة الاعتبار لهذه الحياة الدنيا التي كانت الكاثوليكية قد حقرتها لدى المؤمنين لدرجة لم يعد من الممكن فيها للحياة على الارض ان تجد أي مبرر قوي لها وان تبدع بالتالي ما تحتاج اليه من عناصر التنظيم والانتظام من داخل الدين او خارجه"، ويقول في مكان اخر:"ان مضمون العلمانية هو" اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " أو كما عرفها الدكتور " مراد وهبة " في «مؤتمر تأسيس العلمانية فى مصر» بتنظيم من «حزب مصر الأم» والذي عقد في 1/3/ 2006 بأنها أي العلمانية «التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق» ، أدعوهم أن يتفقوا أولا ومن ثم يتوجهوا بدعوتهم للجمهور. • ثانيا : أزمة النموذج : المتتبع للحركة العلمانية يرى أنها تبنت الدولة القطرية على حساب الأمة ودافعت دوما عن الدعاوى القومية القطرية الضيقة واعتبرت ذلك مشروعها الذي سوف يلاقي القبول والنجاح ، ولقد وصلت الدولة القطرية الى قمة ازمتها تحت قيادة العلمانيين العرب على انقاض تفتت دولة الخلافة الاسلامية ، وكانت ذروة هذه الازمة كما يقر الآن العديد منهم تتمثل في التناقض بين الانظمة العلمانية والهوية الثقافية الاسلامية للمجتمعات التي تولوا الحكم فيها ، من جهة، و بلوغ الدولة القطرية الى ذروة الاستبداد والدكتاتورية رغم علمانيتها من جهة ثانية ، لقد عجز العلمانيون العرب عن اقامة الديمقراطية حين استلموا السلطة في بلدانهم ، وهذا سبب اساس من اسباب تراجع العلمانية وانحسارها في العالم العربي. • ثالثا: العَلمانيون العرب و الديمقراطية : رغم ادعاء العلمانيين العرب تلازما تاما بين العلمانية والديمقراطية فقد فشلوا فشلا ذريعا في إثبات أنهم دوما مع الديمقراطية في مواجهة الديكتاتورية والأمثلة على ذلك لاتحصى ، ففي تونس يقف العفيف الأخضر في صف واحد مع السلطة القمعية مبررا بل ومدعما سياسة تجفيف الينابيع التي تنتهجها بعض الحكومات العربية بحجة استئصال جذور الأصولية وتحديث التعليم ، يعكس موقف العفيف الأخضر بوضوح التحيز العلماني العربي إلى معسكر الاستبداد والاضطهاد، إذ أن سياسة تجفيف الينابيع هي الشغل الشاغل للأنظمة التي لا تعبر عن إرادة الجماهير ولا تخضع لرقابة الشعب بل هي الأنظمة التي مازالت تكافح ضد الديمقراطية لأن الديمقراطية التي تأتي إلى دفة الحكم بمن يختارهم الشعب تقضي بالضرورة على الامتيازات المكتسبة والمحتكرة من قبل فئة قليلة حاكمة تفقدها الديمقراطية هذه المكتسبات ، كما لايستطيع العلمانيون العرب أن يدعوا أن الأنظمة العربية القائمة الآن غير علمانية ، بل إنها كثيرا ما تبنت نهجا علمانيا متطرفا كتونس ، أرجو أن يدلني هؤلاء على أي نجاح حققه نظام زين الدين بن علي باتجاه الديمقراطية ، آلاف المعتقلين تمتلىء بهم السجون التونسية ، انتخابات مزورة ، انسداد سياسي . وعلمانية تركيا وجه آخر للتطرف العلماني فقد صرح الرئيس التركي أحمد نجدت سيزر مؤخرا 12-4-2006 أمام مجموعة من العسكريين في الكلية الحربية في استنبول قائلا: إن بلاده تواجه تهديدا متناميا من جانب الاصوليين الإسلاميين الذين يسعون الى تقويض نظامها العلماني ، وأبلغ سيزر تجمعا لضباط الجيش ان الاصولية الدينية وصلت الى مستويات خطيرة وأكد أن الضمان الوحيد لتركيا ضد هذا التهديد هو نظامها العلماني. أين ديمقراطية العلمانيين في كلام سيزر، تكميم للأفواه ، والتفرقة بين المواطنين على أساس العقيدة فيمنع الإسلاميين من الوظائف الحكومية ، هل من الديقراطية يا سادة أن يلجأ العلمانيون للجيوش لتحمي مشروعهم من الشعب لتضمن له الاستمرار على رغم الإرادة الشعبية كما حدث في تركيا عام 1997 . وإذا كانت الديمقراطية العلمانية تسمح للشيوعي أن يعبر عن رأيه في السياسة والاقتصاد بحسب مرجعيته الشيوعية ، فلماذا يمنع من ذلك الإسلاميين وحدهم من المشاركة على خلفية مرجعيتهم الإسلامية ؟ هل هذه هي الديمقراطية أيها العلمانيون العرب ؟ • رابعا : الخطأ العلماني الأعطم: إن العلمانيين العرب يخوضون معركة على خلفية وشروط القرن الثامن عشر الاوروبي حين خاض الأوروبيون معركة عقلنة الحياة السياسية وتحرير مجتمعاتهم على اساس نقد الدين والتخلص من السلطات المطلقة التي كان يتمتع بها ليس فقط رجال الكنسية بل الملوك ادعياء الحق الالهي في الحكم ، في ذلك الوقت كانت العلمانية حلا لمشكلاتهم . إن العلمانية الأوروبية جاءت حلا لمشاكل كانت أوروبا تعاني منها، ولم تواجهها المجتمعات العربية والاسلامية ، والاصرار على طرحها في هذه المجتمعات على قاعدة نقد الدين الاسلامي و الدعوة الى استبعاده، لا يحل مشكلة ، بل يخلق مشاكل اكثر تعقيدا ، إن ذلك يؤدي كما لا حظ د.برهان غليون عن حق الى جعل العلمانية أكبر موضوع لسوء التفاهم على الاطلاق في الفكر السياسي العربي الحديث. وككل مصدر سوء تفاهم لا بد ان تكون المشاكل النابعة منها اكثر من المسائل التي كان يتوجب حلها ، يا سادة افهموا الإسلام أولاً ، ليس في الإسلام حكم بالحق الإلهي كما أن ليس فيه كهنوت والحاكم خادم للشعب وأجير لديه هو الذي يوليه وهو الذي يسقطه . وإذا أصر العلمانيون على استبعاد الإسلام كشرط للديمقراطية فلن تقبل الشعوب العربية أو الإسلامية هذا الشرط مطلقا وسيظل المشروع العلماني معبرا فقط عن نخبة ممن يدمنون النظر لماوراء الحدود. • خامسا : أزمة الثقة: على المستوى السياسي كان هناك دائما أزمة ثقة بين الجماهير وبين المشروع العلماني ورموزه ، فلم يقدموا مشروعاً سياسياً حقيقياً نابعاً من حاجة الأمة مراعياً لخصوصيتها متعرفاً على مشكلاتها، ساعياً للنهوض بها؛ بل كانت جميع أطروحاتهم السياسية عبارة عن ترجمات مشوهة لبعض النظريات الغربية، فكانت في منتهى النشاز والغرابة والبعد عن واقع الأمة وحاجتها ، كما أنهم قد فشلوا في حيازة ثقة الجماهير بسبب ركونهم لأنظمة متسلطة ، فلست أظنهم قادرين على إنكار أن هذه الأنظمة مشاريع علمانية من قومية اشتراكية وبعثية وقطرية ، وقد فشلت هذه الأنظمة في بناء نظام ديمقراطي واحد. كما أن هناك أزمة ثقة علمية في رموز العلمانية العرب بداية من الشيخ علي عبد الرازق إلى نصر حامد أبو زيد ، فقد شكك الدكتورضياء الريس في أن مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم هو الشيخ علي عبد الرازق ، حيث بدت للريس دلائل جعلته يشك في أن الشيخ هو المؤلف الأصلي للكتاب ، لأنه لم يعرف عن الشيخ أبدا أنه كان باحثا أو مفكرا أو سياسيّا أو مشتغلا بالسياسة، فهو تلقى ثقافته بالأزهر ولم ينتج غير مذكرة أو كتيب في علم البيان ، وفي الأطروحة العلمانية التي قدمها نصر حامد أبو زيد لنيل درجة الأستاذية تزوير فاضح كذلك مما اعتبره باحثون بحق أكبر فضيحة علمية تعرفها الجامعات المصرية منذ نشأتها عام 1924 ، فقد أحصى د. محمد عمارة ما يزيد عن ثلاثين خطئا تاريخيا وعلميا ، أدرجها تحت عنوان "قلة علم" ووصفها "بأنها لا تليق بأستاذ متخصص في دراسة و تدريس الإسلاميات"، وكان لافتا أن بعضها لا يقع فيها طالب علم مبتدئ - كان أكثرها إثارة للسخرية أنه ، أي أبو زيد ، استولد الإمام الشافعي في العصر الأموي ، رغم أنه ، رحمه الله ، ولد بعد نهاية الدولة الأموية ب 18 عاما!! - ، فضلا عن قيامه بعمليات تزوير فاضحة لنصوص اقتبسها، من دراسة سابقة للشيخ محمد أبو زهرة، صدرت عام 1948 عن "أبي حنيفة". هل يظن العلمانيون أن الشعوب جاهلة إلى حد الاستغفال ، أرجو أن تراجعوا مشروعكم ومواقفكم . • وأخيرا : تعالوا إلى كلمةٍ سواء: دعونا نتفق أن الصعوبات التي يواجهها مشروعكم لا تكمن فقط في صعوبة فصل المجتمع عن جذوره، وإنما في صعوبة فصله عن مستقبله، وفي حالنا فان الاسلام ، كمعطى حضاري وتاريخي، هو الجذر وهو المستقبل ، دعونا كذلك نتفق أن تبنيكم للطرح القائل "إما الاسلام وإما الديموقراطية "، مثل هذا الطرح يعني أن على المجتمعات أن تختار الإسلام أوالديمقراطية ، إن المجتمعات العربية لن تتخلى عن دينها ولن تعتقد يوما أن دينها مكانه المسجد وأن لامجال له في السياسة والحكم ، دعونا نتفق أننا بحاجة الى إعادة بناء مجتمعاتنا من جذورها ، نحن بحاجة الى تأصيل قيم الحرية والمساواة والمشاركة ، نحن بحاجة الى إعادة بناء ثقافة الديمقراطية في مجتمعاتنا ، بدلا من التحالف مع حكام لن يضيفوا إلى مشروعكم سوى مزيد من التخبط والحصار .
