أظن أن طرفي عنوان هذا المقال فى حالة تناقض حاد، أى فى حالة إقصاء أحدهما للآخر. وهذه الحالة واردة فى كتاب صدر فى عام 2002 تحت عنوان « الحرب والسلام فى القرن العشرين وما بعده». وكان صدوره بمناسبة مرور مائة عام على نشأة جوائز نوبل فى ديسمبر 2001. والكتاب عبارة عن جملة أبحاث ألقيت فى ندوة بأوسلو عاصمة النرويج دُعى إليها جميع الفائزين بجوائز نوبل للسلام . افتتح الندوة رئيس كوريا الجنوبية كيم داي- يونج الفائز بجائزة نوبل للسلام لعام 2000 وجاء فى مقدمة بحثه العبارة الآتية: « إثر الهجمات الارهابية على أمريكا لا يسعنا إلا أن نكون مهمومين بالسلام. وليس أفضل عند الاحتفال بالذكرى المئوية لجائزة نوبل للسلام من الالتفات إلى مسألة الحرب والسلام فى القرن العشرين، والتأمل فى مسألة رفاهية البشرية وسلامها فى القرن الحادى والعشرين». ويخلص من ذلك إلى أن الصراع المسلح هو نقطة البداية فى القرن الحادى والعشرين، وهى بداية فى غياب سلطة كوكبية قادرة على التحكم فى ذلك الصراع.ومَنْ يتصور أن أمريكا مؤهلة لأن تكون هذه السلطة فهو واهم. والسؤال اذن:لماذا فقدت الكوكبية فاعليتها فى ترسيخ السلام الكوكبي؟ كان جواب يونج أن سبب غياب الفاعلية مردود إلى أن الكوكبية شاعت فى جميع المجالات إلا فى مجال واحد هو المجال السياسى العسكري. ومع ذلك فثمة جواب آخر التفت إليه محمود حمدانى أستاذ العلوم السياسية بجامعة كولومبيا وهو على النحو الآتي: إن القوى الاستعمارية فى العصر الحديث كانت أصولية فى فكرها الديني، ومن ثم أشاعت فكرتين لوضعهما موضع التنفيذ: الفكرة الأولى أن الجماعة المستعمَرة لديها تراث أصيل وغير ملوث. والفكرة الثانية وهى على علاقة عضوية بالفكرة الأولى ومفادها أن على هذه الجماعة المستعمَرة العودة إلى ذلك التراث، وعلى تدعيم هذه العودة بالقانون. وهاتان الفكرتان تكَونان فى النهاية الميثاق الأساسى للأصولية الدينية أو العنصرية لعالم ما بعد الاستعمار. ثم يستطرد باحث ثالث اسمه أمارتيا سن أستاذ الاقتصاد بجامعة كمبردج قائلا: « إن الخطاب المعارض لقيم الغرب وقيم الحداثة والذى تتبناه الأصولية الدينية إنما ينطوى على إشارات، سواء كانت بالتلميح أو بالتصريح - تدور حول الاستغلال الاقتصادى وتدعيم الظلم. أما الأصولية الاسلامية فقانعة بأجندة معارضة تقف ضد الاقتصاد الكوكبى الذى هو- فى رأيها- من صنع السادة الغربيين والذى يفضى فى النهاية إلى صراع الحضارات». والسؤال بعد ذلك: إذا كان من عوامل فقدان الكوكبية لفاعليتها الايجابية بزوغ الأصوليات الدينية فهل ثمة أصولية معينة طاغية؟ جواب أكيرا أيريا أستاذ التاريخ الأمريكى بجامعة هارفارد أن الخُلق الإنسانى قد تغير إلى حد التلاشى وسبب ذلك مردود إلى بزوغ ظاهرة الأصولية سواء كانت مسيحية أو اسلامية أو أية سمة دينية أخري. ولهذا لم تكن الأصولية الاسلامية هى الوحيدة من بين الأصوليات الأخرى التى كانت سبباً فى تلاشى ذلك الُخلق البشرى إلا أنها كانت أقوى الأصوليات جميعاً فى إحداث ذلك التلاشي. وعلى الرغم من اعتقاد الاسلاميين المحدثين أن ثمة تناغماً بين الحضارة الاسلامية والحضارة الغربية فإنهم ملتزمون بتغيير قوانينهم وممارساتهم الاجتماعية للتدليل على ذلك التناغم، ولكن بشرط أن يظلوا مخلصين لتعاليم دينهم. وفى المقابل أصر الأصوليون المسلمون على أن يكون الفقه الإسلامى هو الحاكم للمؤسسات الاسلامية بما فيها الدولة. ثم يستطرد أيريا قائلاً: « مما لاشك فيه أن رفض الغرب والخوف منه فى العالم الحديث هو السبب فى بزوغ الأصولية الاسلامية. ومع ذلك فانه يمكن القول على أصوليات الأديان الأخرى مثل المسيحية والبوذية المعارضين لمتطلبات الكوكبية ما يقال على الأصولية الاسلامية مع تحفظ واحد وهو أن الحرب ضد الارهاب لا يعنى الحرب ضد الاسلام إنما يعنى الحرب ضد جماعات داخل الاسلام. يبقى سؤال: مع غياب سلطة كوكبية وشيوع أسلحة الدمار الشامل وهيمنة أصوليات دينية تقف عند الماضى وتحذف المستقبل ما هو مسار جائزة نوبل للسلام فى القرن الحادى والعشرين؟ وفى صياغة أخري: ما هو المعيار الذى تستند إليه اللجنة النرويجية فى اختيار الفائز بجائزة نوبل للسلام؟ للجواب عن هذا السؤال نثير الأسئلة الآتية: هل هو الفاعل والمؤثر فى تأسيس مؤسسات كوكبية تمهيداً لبزوغ وعى كوكبي فى اتجاه تشكيل حكومة كوكبية؟ وهل هو الذى يدعو إلى تصفية الأممالمتحدة بدعوى أنها تستند إلى مبدأ استقلال الدول وعدم التدخل فى شئونها وهو مبدأ مناقض للكوكبية التى تدعو إلى الاعتماد المتبادل بين الدول؟ واذا دعا إلى تصفية الأممالمتحدة فما هو البديل؟ وهل هو الذى يعلن الحرب على الارهاب؟ ويعلن فى الوقت نفسه أنه ليس ضد الدين إنما ضد جماعات فى داخل الدين؟ واذا كانت هذه الجماعات تشهر سلاح التكفير فى مواجهة المصلحين المتنورين، فهل يكون الفائز فى هذه الحالة هو مَنْ يدافع عن مشروعية الكفر والالحاد فى الأديان سواء كانت سماوية أو أرضية؟. لمزيد من مقالات مراد وهبة