من أين يبدأ الإصلاح التشريعي؟ مبعث السؤال أن هذا الإصلاح المنشود عملية ضخمة متعددة الجوانب والمحاور كثيرة التفصيلات. لهذا يبدو التركيز على منهج الاصلاح وأولوياته ضرورة منطقية وحاجة براجماتية. ثم أنه - هكذا يبدو لى - مؤشراً لمعرفة ما إذا كانت اللجنة العليا المكلفة بهذه المَهَمَّة ستمثل كما نتمنى جميعاً ثورة تشريعية أم مثلما يتخوّف البعض ردة تشريعية ام ستكون مجرد لجنة خبرة علمية وقانونية رفيعة المستوي. وحده الاحتكام إلى منهج الإصلاح وأولوياته يسهم فى تحريك النقاش واستجلاء وجه الحقيقة. منهج الإصلاح التشريعى المنشود مطالب بمواجهة عبء تشريعى ( وسياسى ) ثقيل. هذا العبء هو ترجمة ما تضمنه الدستور المصرى المعدّل فى سنة 2014 من مبادئ وأحكام إلى منظومة تشريعية ومؤسسية متكاملة. فالكثير من نصوص الدستور هى مجرد مبادئ. وسمة المبادئ الدستورية أنها لا تتضمن تنظيماً أو تفصيلاً لجوانب المبدأ أو كيفية تطبيقه أو الجزاء المترتب على مخالفته . التشريعات وحدها هى التى تضطلع بهذه المَهَمَّة. لهذا تحيل الكثير من النصوص الدستورية إلى التشريع لاستكمال تنظيم ما كرّسته من مبادئ وذلك من خلال التعبير الذائع " وذلك على النحو الذى ينظمه القانون". والحاصل اليوم أن لدينا دستوراً جيداً لكن لدينا فى الوقت ذاته إما تشريعات غائبة لم تصدر بعد لتفعيل مبادئ الدستور ووضعها موضع التنفيذ، أو تشريعات قائمة تتعارض مع أحكام الدستور، أو ممارسات تتجاهل ما تضمنه الدستور. المطلوب إذن منهجية للإصلاح التشريعى تأخذ فى الاعتبار هذه التحديات الثلاثة. التحدى الأول إذن هو إصدار التشريعات الغائبة واللازمة لتفعيل الدستور. والأمثلة كثيرة. فالمواد 18 و 68 و 25 من دستور 2014 تكرّس على التوالى حقوقا دستورية فى الرعاية الصحية والتزام الدولة بالشفافية والقضاء على الأمية. لدينا هنا تشريعات غائبة تحتاج إلى الإصدار لتفعيل هذه الحقوق الدستورية ووضعها موضع التنفيذ. التحدى الثانى هو مواجهة واقع التشريعات التى تبدو متعارضة او غير متسقة مع أحكام الدستور لا سيما فى مجال الحقوق والحريات العامة. والجدل الذى أثاره قانون تنظيم التظاهر مثال حاضر على هذا التحدي. فقد تضمن هذا القانون من القيود ما يجهض نص المادة 73 من الدستور التى تكرّس الحق فى التظاهرات والمواكب والاحتجاج السلمي. بالطبع ليست هناك حقوق مطلقة وكل حق يخضع للتنظيم بما يستوجبه ذلك من وضع شروط وضوابط لكن المبدأ الذى أكدته مراراً المحكمة الدستورية العليا ومجلس الدولة هو ألا يكون التنظيم ذريعة لمصادرة أصل الحق ذاته. يبقى التحدى الثالث وهو معالجة الممارسات التى تتم على أرض الواقع بالمخالفة لأحكام الدستور . ثمة ممارسات (خاطئة) وأخرى تصل إلى حد (الخطيئة) مثال الاولى حبس واحتجاز أطفال تقل أعمارهم عن 18 عاماً بالمخالفة لأحكام الدستور والقانون معاً. ومثال الثانية التعذيب والأفعال المهينة للكرامة الإنسانية والمشينة لمن يمارسها. منهج الإصلاح التشريعى يفرض أيضاً مواجهة ظاهرة التضخم التشريعى الناتج عن غابة كثيفة ومتشعبة ومتداخلة ( وهذا هو الأخطر) من التشريعات يناهز عددها فى مصر الآن 300 ألف وثيقة تشريعية ( بأنواعها المختلفة). هذا التضخم التشريعى قد يعكس من ناحية تطور الحياة فى المجتمع وتعقد نشاط الدولة الحديثة لكنه يمثل من ناحية أخرى إزدواجية فى النصوص مما يرهق أحياناً سلطات إنفاذ القانون. نحتاج إذن لتنقية هذه الغابة الكثيفة من التشريعات واللوائح. وجمع التشريعات واللوائح والقرارات التى تنظم مجالا أو نشاطا معينا داخل مدوّنة واحدة لتحقيق الاتساق المطلوب بينها وتسهيل الرجوع إليها وتفادى ظاهرة التضارب التشريعي. ولا نتمنى من عملية الإصلاح التشريعى القائم حاليا أن تكون عاملاً إضافياً لهذا التضخم التشريعي. نحن مدعوون أيضاً منهجياً لإعادة تقييم خيار تشديد العقوبات بوصفه فى الواقع المصرى الحل الأمثل ( والأسهل ) لمواجهة ظواهر الجريمة والعنف والانفلات السلوكى فى المجتمع. هنا ربما يجب التذكير بأن الفكر القانونى المعاصر فى العالم المتقدم قد تجاوز منذ زمن هذا الاعتقاد. لم يعد تغليظ العقوبة بالضرورة هو الحل القانونى الأنجع لمكافحة الجريمة والعنف. هنا أيضاً نحتاج لا ستحضار مقولة المفكر القانونى Cesare Beccaria أن قانوناً معتدل العقوبة مؤكد التطبيق أفضل ألف مرة من قانون مبالغ فى عقوبته لكنه غير مؤكد التطبيق. إذا استثنينا بعض الجرائم الجسيمة التى تتسم بالبشاعة وتكشف عن الخطورة الإجرامية لفاعلها مثل الاغتصاب والقتل الجماعى بلا تمييز والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد فإن تغليظ العقوبة فى كثير من الجرائم ليس هو الحل الأمثل قانونياً والأنجع واقعياً. فاعلية العقوبة يجب أن تقاس بقدرتها على إحداث الردع وتحقيق المصلحة الاجتماعية. وهنا توجد صور عديدة من الجزاءات الحديثة والتدابير والبدائل وكلها تنطوى أيضاً على الردع وتحقيق المصلحة الاجتماعية إذا ما تم اختيارها بذكاء فى إطار سياسة قانونية اجتماعية وقائية تتكامل فيما بينها لمواجهة ظواهرالجريمة والعنف والانفلات. هذا ليس كلاماً رومانسياً. هذا خلاصة ما انتهى اليه تطور الفكر القانونى المعاصر. وهو بالمناسبة فكر براجماتى يقيّم العقوبة بمقياس نجاحها على أرض الواقع وليس بأى مقياس آخر. أزعم أن منهجاً للإصلاح التشريعى يراجع مقولة تشديد العقوبة هو الحل ويبتكر منظومة جديدة من الجزاءات الذكية والواقعية والفعّالة يبدو مطلوباً اليوم وبشدة فى مجال الجرائم والمخالفات الاقتصادية والضريبية والبيئية وأيضاً فى مجال جرائم الرأى والجرائم السياسية. باختصار على منهجية الاصلاح التشريعى أن تعمل من حيث انتهى تطور الفكر القانونى العالمى لا من حيث بدأ. فالشعوب الوثّابة هى التى تتقدم إلى الأمام. ومن حقنا أن نحلم بذلك. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم