اعتقد البعض خطأ أنه بمجرد انتهاء الاستفتاء والموافقة علي الدستور.. سوف تنقلب الدنيا رأسًا علي عقب، بمعني اختفاء مؤسسات قائمة.. وظهور هيئات جديدة تنفيذا لما استحدثه الدستور الجديد، خاصة في باب الهيئات المستقلة. ويبدو أن هذا البعض قد نسي أن الدستور عبارة عن "وثيقة" توافق عليها الأغلبية في المجتمع وتتضمن المبادئ الأساسية للحريات والحقوق والتوجهات السياسية والاقتصادية للدولة وتشكل الحكم فيها، فضلا عن تحديد الاختصاصات الأساسية لسلطات الدولة الثلاث (التشريعية - والتنفيذية - والقضائية). أي أن الدستور يخاطب المشرّع في الأساس.. حيث عليه - أي المشرّع - أن يحول تلك المبادئ والتوجهات والأحكام الأساسية إلي نصوص قانونية عامة ومجردة وقابلة للتطبيق والتنفيذ.. بحيث تخاطب الكافة ولا يعذر الجهل بها فيما بعد. بمعني آخر.. فالدستور لا ينظم بشكل تفصيلي الحقوق والواجبات لأفراد المجتمع.. إنما تنظمها القوانين المختلفة طبقًا لمهنة كل فرد أو طبيعة نشاطه الذي يمارسه، كما أن المحاكم لا تفصل في النزاعات المعروضة عليها طبقًا لما جاء بالدستور.. إنما طبقًا للقوانين التي تنظم الوقائع الخاصة بالمنازعة.. وعلي المحكمة فقط أن تراعي أن هذه القوانين لا تخالف الدستور، وإذا طعن أمامها بذلك فعليها أن تحيلها للمحكمة الدستورية للفصل في مطابقة النص المطعون فيه مع الدستور من عدمه. وعلي سبيل المثال تنص المادة السادسة من الدستور علي أن النظام السياسي في الدولة يقوم علي مبادئ الديمقراطية والشوري والمواطنة.. والتداول السلمي للسلطة.. إلخ. فهذا النص الدستوري بمثابة توجيه وإطار حاكم للمشرع لإعداد مشروعات قوانين جديدة.. أو إعادة النظر في القوانين السارية التي تحقق تلك المبادئ والتوجهات ومنها قوانين الانتخابات وممارسة الحقوق السياسية، وكذلك قانونا مجلسي النواب والشوري.. وكذلك قانون الأحزاب.. إلي آخر تلك المنظومة القانونية المعروفة.. وأيضًا النص الدستوري الوارد في المادة 76 من الدستور والذي يقول:(العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص دستوري أو قانوني، ولا عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا علي الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون). فهذا النص أيضًا عبارة عن مبادئ عامة لا تجب مخالفتها وهو يتعلق بكافة القوانين العقابية السارية.. وكذلك القوانين التي تحدد اختصاصات المحاكم المختلفة ودرجاتها الأعلي، فهو إذن يتعلق بقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية.. وكذلك قانون المرافعات.. والقانون المدني.. وغيرها من القوانين التي تمكن محاسبة أي مواطن علي مخالفة نصوصها!، فمثلا المادة 77 من الدستور نصت في إحدي فقراتها علي أن ينظم القانون استئناف الأحكام الصادرة في جنحة أو جناية، والوضع الحالي كان يسمح فقط باستئناف الجنح فقط.. وكان يُنظر الطعن أمام محكمة الجنح المستأنفة، أما الجنايات فكان يكتفي بالطعن علي الحكم الصادر فيها أمام محكمة النقض فقط، والآن أصبحنا أمام درجة جديدة في التقاضي.. وهي إمكانية استئناف أحكام الجنايات.. وهو ما يعني إعادة النظر في النصوص القانونية المنظمة للطعن في الأحكام.. وهكذا. فالدستور هنا كان واضحًا في الإشارة إلي عدم الاكتفاء بما ورد فيه من أحكام، إنما أناط بالمشرّع إصدار قانون لتنظيم هذا التوجه الجديد المستحدث.. وكذلك عندما ينص الدستور في المادة 52 منه علي أن ينظم القانون النقابات المهنية وإدارتها علي أساس ديمقراطي وتحديد مواردها وطريقة مساءلة أعضائها.. إلخ. فهناك أيضًا أناط الدستور بالقانون تنظيم إنشاء النقابات المهنية وكيفية ممارسة نشاطها وحقوق وواجبات أعضائها، ولكن وضع مجموعة من الأحكام لا تجب مخالفتها في القانون الذي سيصدر في هذا المجال.. منها الإدارة علي أساس ديمقراطي أي يتم اختيار مجلسها بالانتخاب، وألا تكون لأية مهنة سوي نقابة واحدة.. وعدم جواز حل مجلس إدارتها إلا بحكم قضائي وعدم فرض الحراسة عليها.. ومن الملاحظ أن الدستور المصري هنا أخذ بما يسمي بوحدة العمل النقابي.. وليس بمبدأ التعدد كما كان يدعو له أحد الوزراء السابقين.. وتسبب في إثارة الفوضي النقابية في المجتمع باختراع ما يسمي بالنقابات المستقلة! وما سبق كان مجرد أمثلة أن العبرة بالقوانين التي تصدر مفسرة ومنظمة للقواعد الدستورية.. ولكن أحيانًا ما يتضمن الدستور أحكامًا انتقالية لظروف خاصة ومؤقتة.. ومنها مثلا ما ورد في الفصل الثالث من الباب الخامس والمتعلق بالأحكام الانتقالية، حيث نصت المادة 230 علي أن يتولي مجلس الشوري القائم بتشكيله الحالي سلطة التشريع كاملة من تاريخ العمل بالدستور حتي انعقاد مجلس النواب الجديد وتنتقل إلي مجلس النواب فور انتخابه السلطة التشريعية كاملة لحين انتخاب مجلس الشوري الجديد، علي أن يتم ذلك خلال سنة من تاريخ انعقاد مجلس النواب فهذا نص آمر.. كما يقول فقهاء القانون.. أي واجب التطبيق الفوري ولا يتطلب إصدار قانون، لأنه حكم انتقالي مرتبط بفترة زمنية معينة، وأعتقد أن الجميع يفهم أسباب ذلك! ختامًا.. لقد حاولت توضيح أن الدستور لا يخاطب الأفراد، إنما يخاطب المشرّع أولا ومؤسسات الدولة ثانيًا.. حيث تلقيت كأمين عام للمجلس الأعلي للصحافة اتصالات عديدة من بعض الزملاء الصحفيين.. يعلموني فيها أنهم بصدد إخطار المجلس الأعلي بالصحف الجديدة التي يزمعون إصدارها طبقًا للدستور الجديد الذي أجاز في المادة 49 منه إصدار الصحف بالإخطار لكل شخص مصري طبيعي أو معنوي، ولكني أوضحت لهم أن الدستور وحده لا يكفي للحصول علي هذا الحق.. إنما الأمر يتطلب تعديل القانون الساري في هذا المجال وهو قانون تنظيم الصحافة رقم 96 لسنة 1996 فمازال هذا القانون وحده هو الذي ينظم إصدار الصحف الجديدة وأيًا كانت ملكيتها أو مكان ترخيصها.. محليًا أو أجنبيًا! ولقد حاولت في هذا المقال إعادة الشرح والتوضيح.. ولكن بشكل أوسع.. لعل وعسي!