فى مصر كان مطلع نور الإيمان،والمصريون أسبق الشعوب إلى التدين،وفى تدينهم عمق روحى يمتزج بجوانح النفوس، ومع ذلك فهم أبعد الشعوب عن التشدد، وأقربهم إلى أخذ الدين مأخذ اليسر، والنفور من التزمت والمتزمتين. ومع إخلاصهم فى تدينهم، يحبون المرح والسرور،ولكنهم حين يستشعرون أنهم أسرفوا فى الضحك، يغشاهم طائف من الخوف. والطبيعة المصرية غلابة، تصبغ كل ما تضمه إليها بروحها،وتعيده مصريا ملائما لمزاجها، ولو كان هذا الذى تضمه دينا سماويا، فحين احتضنت مصر المسيحية، كان للمصريين مذهبهم الخاص بهم ، فى تحدٍ واضح منهم لمذهب الرومان المحتلين. وحين احتضنت مصر الإسلام شكلته برؤيتها وفقهها. وقد تسأل : وهل يتشكل الدين بالبيئات أو بالعصور؟ ألم ينزل الدين كاملا شاملا من عند الله منذ أن أتم النبى بلاغه إلى الناس؟ والجواب : نعم، إن الدين يتشكل بحسب البيئات والعصور، بل بحسب الأشخاص وطبائعهم وتكوينهم الخلقى والمزاجي، ألم يقل النبى صلى الله عليه وسلم ( خياركم فى الجاهلية خياركم فى الإسلام )؟!، هذا مع الإيمان بأن الدين أكمله الله ، وأن ثوابت الدين راسخة، لا يحق لأحد المساس بها، وإلا لم يعد الدين دينا، وإنما يصير فلسفة تتطور،وفكرا بشريا يتغير. ومع التسليم بهذه المنطقة المحظورة، منطقة المعتقدات الأساسية والثوابت المعلومة من الدين بالضرورة، هناك منطقة أخرى أوسع، وهى منطقة ( المسكوت عنه ) أو منطقة ( الإقرار )، وفيها قدر كبير من حرية الحركة والاجتهاد فى إطار قيم الدين الكبري، وأهمها قيم : ( العدل ) و (الرحمة ) و(حب الخير العام )، وقد وضع النبى صلى الله عليه وسلم نفسه قاعدة المصلحة أو الخير العام بقوله ( لا ضرر ولا ضرار )،ونهيه عن ترداد السؤال فيما ( سكت عنه ). وإذا كان من المسلم به أنه ليس من الممكن ( عمليا ) ولا من المقبول ( عقليا ) أن يهجر المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها أوطانهم، ويرحلوا إلى ( المدينةالمنورة )، لينحشروا فيها مقيمين حيث كان يقيم النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته بحجة الاقتداء بالنبي، فليس من الممكن عمليا،ولا من المقبول عقليا أن يغادورا عصرهم الحاضر، أو يحولوه إلى هيئة القرن الأول للهجرة،بحجة أن القرن الأول هو خير القرون، فكما تستحيل تلك الهجرة من حيث المكان، تستحيل هذه الهجرة من حيث الزمان. وإن نظرة واحدة إلى حركة العصور الإسلامية فى تطورها ترينا البون الشاسع بين صورة الإسلام فى القرن الأول للهجرة، وصورته فى القرن الرابع على سبيل المثال، حيث نرى تمايز العلوم الدينية ، وتنوع المدارس الفقهية والكلامية، ونرى استقلال المؤسسة الدينية عن الخلفاء والولاء، فلم يعد الخليفة أو الوالى هو المرجع الديني، كما كان ذلك فى عصر الخلفاء الراشدين، ونرى منذ القرن الثانى اختلاف الأئمة الفقهاء، وتجدد فتوى الإمام الواحد منهم كلما بدا له اجتهاد جديد،أو كلما انتقلت إقامته من إقليم إلى إقليم،وتعدد الروايات المنقولة عنه،كل ذلك يقطع بما فى طبيعة الإسلام من مرونة وتسامح . ونحن فى عصرنا الحديث خاصة المصريين الذين يتدينون بالإسلام فى ظل مؤسسة الأزهر ذات المنهج الوسطى والرؤية المتنوعة، لا نواجه معضلة أو أزمة،لا فى التمسك بالعقيدة،ولا فى الاهتداء بالشريعة،ولافى توافقنا مع العصر،وإنما يصطنع هذه الأزمة ثم يدعون أننا نواجهها، من لا ينظرون إلى الإسلام إلا من ثقب التنظيمات الإرهابية،والجماعات المتطرفة التى عملوا هم على إقامتها وإعانتها وتشجيعها، لتكون لهم حجة حينما يقلبون لها ظهر المجن،ويحولونها عدوا يبررون به البغى والعدوان،وتحقيق مخططاتهم فى تقسيم المنطقة تقسيما يحقق لهم السيطرة. ومن السفه الذى اتسمت به تلك التنظيمات والجماعات أنهم يفرحون بما يلقونه من ذلك الدعم السياسى والمالى والعسكري،ولا يعلمون أنه دعم وقتى للتعجيل بالصدام والمواجهة الشاملة التى يريد الطامعون أن يكون فى أيديهم زمام المبادأة بها،وتحديد وقتها، المناسب لهم،ومن الغباء الشديد أن تتعجل إلى صدام يجرك عدوك إليه،ويحدد هو مكانه وزمانه. وإذا كان هناك من ينادون مخلصين : ( فلنعد إلى الإسلام )،فنحن نناديهم بشعار آخر أولى بأن يُتَّبع وهو (فلنُعِد إلينا الإسلام)،وكان صاحب السبق إلى رفع هذا الشعار الأستاذ : محمد خليفة التونسى رحمه الله فى مقالة قديمة له عن ( التسامح فى الإسلام )، وأرجو أن نركز على المضمون الذى تحتويه كلمة ( إلينا ) وأن نتأمل فيه،فهو يعنى أن الدين نعمة أنعم الله بها على الإنسان،وليس نقمة تجعل حياته إرهابا وعدوانا،أوأغلالا تمنعه من التصرف والعمل بحسب مقتضيات زمانه،وبحسب ما يتعلم هو من تجاربه وخبراته. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل