أبواب البحر قادته إلى عتباتها حيث مدينته التى سكنت الفؤاد.. يختفى الكون من حوله أمام سحرها.. أصوات من الماضى يعرفها تشق الريح وتناجيه أن يخطو إليها أولى خطواته.. هنا أرض البعث والخلود. مدينته لا تنام، قلبها ينبض بالحركة دون توقف.. عطرها البسطاء والوجوه الباسمة والقلوب اليانعة. تعرّف عليها من روايات ألبير قصيرى - خاصة رواية «شحاذون ونبلاء»- فقرر أن يمشى للقائها. رسمت الأقدار طريقا مستقيما للرسام الفرنسى «جي نادو» - الشهير ب «جولو»- حين رسى شراعه فى عام 1973 على ضفاف نيل مصر.. وهو من كان يحلق فوقها طائرا حرا إلى أن سجنته فى قفص عشقها.. فانطلق بريشته يرسم هذا الحب فى لوحات من الضوء الحى لشخصيات من الواقع تعيش خارج الإطارات الملونة. أبطال عالمه من العامة والكادحين والمهمشين ممن تعج بهم الشوارع والمقاهى والأسواق. لم يكتف «جولو» بشخصيات الواقع وإنما اختلق بريشته بشر وهميين مثل شخصية «أستاذ فلان». هذا الرجل أصلع الرأس وقصير القامة يركض فى دهاليز كوابيسه كلما تناول وجبة الكوارع فى العشاء قبل النوم. أحلام مزعجة لوطن خارج الزمان، يقوم من خلالها «أستاذ فلان» بجولات متعددة، يلتقى فيها بفرعون يرتدى قناع (ماسك) بسبب التلوث البيئى الذى انتشر فى القاهرة، و فرعون آخر يرتدى ملابس عسكرى المرور محاولا السيطرة على الفوضى المرورية، كما يمر «فلان» فى جولاته من بوابات تشبه بوابة المعبد الفرعونى ليكتشف أنه داخل مطار القاهرة. عالم افتراضى عبثى تتداخل فيه صور مصر القديمة جنبا إلى جنب مع الدولة الحديثة، يسرد عن طريقه «جولو» - ببراعة وبساطة- أهم التطورات الإجتماعية وتفاصيل الحياة اليومية التى يعيشها المواطن المصرى.
لحظات هاربة
وحده الفن الذى ينجح فى اعتقال لحظة هاربة لسيدة تحمل أطفالها وتتنقل فى السوق حاملة المشتريات الكثيرة، أو رجل يتعلق بسلم أتوبيس مزدحم بالركاب وآخر يجرى خلف الترام للحاق به، أو جندى ينام من فرط الإجهاد والإرهاق على مقعده بالشارع، بينما يقف لساعات بائع الذرة العجوز على الكورنيش.. الكل يكافح من أجل العيش الحلال.. الكل لديه قدرة هائلة على تحمل الأهوال وتحدى الصعاب حتى وإن كانت بحجم وفى المساء، يغتسل هذا الشعب النبيل ويتخلص من معاناته اليومية وهمومه، بقضاء سهراته فى موالد أولياء الله الصالحين مستمتعا بحلقات الذكر وألعاب المولد والحلوى.. أو بالمقاهى حيث يتجمع الأصدقاء والجيران حول المذياع الذى ينطلق منه صوت كوكب الشرق أم كلثوم. ترتبط مصر فى ذاكرة «جولو» بسيدة الغناء العربى التى يرسم وجهها فى معظم أعماله الفنية. يحكى أنه حين جاء إلى القاهرة كان يستقل التاكسى خصيصا لكى يطلب من سائقه أن يصحبه فى أى جولة بالمدينة، شرط أن يسمع أثناء الجولة أغانى أم كلثوم. ويسترسل قائلا: «هذه السيدة التى كانت تحيى ليلة الخميس الأول من كل شهر من سنة 1928 حتى 1972، عدد قليل من الصفوة كان يمكنه حضور حفلاتها، لكن باقى الشعب كان يجتمع حول الراديو فى البيت وفى الشرفات، على المقاهى وعلى الأرصفة، وكأنها ساعة الأفطار فى شهر رمضان». فتحت المحروسة ذراعيها ل «جولو» حين احتضنت مجلة «صباح الخير» رسوماته على صفحاتها. من خلال عمله بالمجلة، التقى برسام الكاريكاتير جورج بهجورى، ثم ربطته علاقة صداقة وطيدة بحجازى، و رؤوف عيّاد، ومحيي الدين اللباد، وجودة خليفة.
من السكاكينى إلى القرنة
تدفق الزمن كالنهر، وضاع طريق العودة إلى وطنه الأم فرنسا، فقد اختار جولو الإستقرار بمنطقة السكاكينى فى غمرة، قائلا: «جئت إلى مصر فى المساء، وكانت انطباعاتى الأولى ليلية وعابرة. لكننى فى اليوم التالى وقعت أسيرا فى حبها إلى الأبد. أول من قابلت كان سمير ذو الأصول الصعيدية، وهو من استضفنى فى منزل أسرته وعرّفنى بأصدقائه. وتحت ارشاده خطوت أولى خطواتى ونطقت بأولى كلماتى بالعربية. استطعت أن أتبين أن المصريين غير معتادين على رؤية الغرباء لكن أبوابهم مفتوحة دائما، وأيضا أبواب الجيران». غير أنه انتقل بعد ذلك فى عام 2000 ليستقر بالصعيد، تحديدا فى قرية القرنة حيث الريف والصحراء والآثار الفرعونية التى نقلها فى رسوماته. ومع تدمير هذه القرية - من قبل حكومة مبارك ما بين 2006 و 2009- قرر أن يحكى هذه الدراما بالقصة المصورة فى كتاب «يوميات مدينة الموتى. لكنه عاد إلى قريته الحبيبة مرة أخرى بعد 25 يناير 2011 ليجدها بدون تليفون أو انترنت.. لم يتمكن من متابعة الأحداث سوى عبر تليفزيون الجيران. يذكر أن جولو قد تناول فى رسوماته دول أخرى قام بزيارتها مثل المكسيك وتايوان.. لكن دائما يخطفه الحنين إلى مصر، مؤكدا أن روح الود والتسامح والإنفتاح على الآخر هى سمات مصرية خالصة. وهو ما يدفعه إلى التردد على الموالد الشعبية بحثا عن هذه الروح، فهناك تختلط جميع ألوان البشر والكل يتساوى فى حب الله.. كذلك يجدها فى مسجد بن طولون ومساجد القاهرة الفاطمية.. ويراها على مقاهى المحروسة حيث أنه بين المقهى والمقهى الآخر يوجد مقهى ثالث. و لا يخفى الفنان الفرنسى اعجابه بروح المرح وخفة الظل التى تتحلى بها الشخصية المصرية وقدرتها على تحويل البؤس فى الحياة والظروف المستحيلة إلى مادة للضحك والسخرية. لذا جسد فى رسومات كاريكاترية كيفية تصدى هذا الشعب العظيم للدكتور محمد مرسى وجماعة الإخوان، وكيف نجحت خفة ظل المصرى فى مواجهة الفاشية الدينية المتعصبة بكل أشكالها القبيحة. يبتسم قائلا: «فى مثل هذه الظروف العصيبة، لا يسعنى سوى أن أتمنى انتصار حب الحياة والضيافة والصداقة وخفة الدم الموجودين دائما فى مصر أم الدنيا.. لياليكم وأيامكم زى العسل». هناك أشخاص عندما تلتقى بهم تشعر وكأنك التقيت بنفسك، «جولو» يعد واحدا من هؤلاء نظرا لإكتسابه الكثير من خصالنا وكلماتنا. لأكثر من عشرين عاما ظل الفنان الفرنسى يشرب من ملامح مصر ويسجلها فى أعماقه.. أحب هذا الوطن بكل فصوله ومتناقضاته.. وأحب فى عيون أهله الحلم والأفق والمدى.