كلما ازداد الإنسان اطلاعا على الواقع وتنوعا فى الخبرة، وكلما اتسعت معارفه وتعمقت رؤيته أدرك أن الحكمة الشعبية أو الأمثال المتوارثة عبر الأجيال تحمل من المعانى وتختزل من المعارف وتختزن من الصور ما لا تستطيع حمله الكتب. فالتجربة الإنسانية هى الحقل الأساسى للمعرفة البشرية، وهذه التجربة تكثف خلاصاتها، ونتائجها فى صورة أمثال شعبية، أو قصص وحكايات تحمل رسالة الزمن الفائت إلى الأجيال القادمة. ومن هذا التراث الشعبى حكاية قصيرة جدا؛ تصف وبصدق ما يحدث فى مصر اليوم، حيث اللحظة واضحة فارقة، فإما ان نحفظ كيان هذا الوطن، او نتركه فى مهب الأهواء، ومجرى الريح، إما أن نتعالى على الغرائز والشهوات بكل اصنافها وانواعها، سواء شهوة الانتقام والتشفي، او شهوة السلطة، او شهوة الأنا والهوى، وعمى الذات التى تأمر بالسوء، وتزين الأسوأ. هذه الأقصوصة تحكى عن امرأة خرساء صماء اسمها «طمبورة» تزوجت برجل بدوى لم يكن يعرف لغة الإشارات، بل إن تلك اللغة لم تكن قد اخترعت. لذلك كان كلما أرادها لواجب زوجى يعمد إلى «زكيبة» أو «جوال» مصنوع من الكتان رقيق وناعم يفرشه على الأرض فتستعد هى لتنام عليه. وظلا على هذا الحال سنين طوالا إلى أن جاء يوم هجمت على قبيلتهم قبيلة معادية، ودمرت بيوتهم، ونهبت أموالهم، وأخذت نساءهم رقيقا، فأسرع كل رجال القبيلة للهروب من هذا العدوان القادم، فذهب كل رجل إلى بيته يجمع ما خف وزنه وغلا ثمنه. ومنهم زوج «طمبورة» الذى افترش «زكيبته على الأرض ليضع فيها أهم ما يملك، فما كان من طمبورة إلا أنها نامت عليها مسرورة مبتسمة فى غاية الفرح والسرورلأن زوجها يريدها، وعبثا يحاول الزوج إقناعها أن الوقت ليس وقت متعة، بل وقت موت، ولكنها بالغت فى التدلل، والابتسام حتى وصل الأعداء وأخذوهما أسرى وهو يصرخ ويقول « طمبورة وين .... والعرب وين». و«طمبورتنا» أو جماعتنا لا تختلف عن طمبورة العرب الأقدمين لأنها خرساء صماء لا تفهم لغة الإشارة، عيونها متجهة إلى داخل رأسها، لا ترى فى العالم سوى مجموعة محدودة من الحقائق هى المصالح الشخصية للذات والجماعة، والإخوان والاصدقاء، وهى لا تختلف عن «طمبورة» العرب لأن غاية اهتماماتها بيولوجية أو إن شئت فقل ما تتطلبه النفس البهيمة على حد تعبير الفيلسوف العظيم «ابن سينا» ولا ترتقى فوق ذلك قيد أنملة. يتفكك المجتمع، وينتشر زنا المحارم، والخيانات الزوجية، ويضيع الأمن، ويخيم الخوف على البيوت، وطمبورتنا مستلقية ضاحكة تبتسم فى دلال اللعوب، يصل الخطر إلى الباب والشباك، بل إلى داخل البيت، ويتعرض الأمن القومي، والوجود الوطني، والحدود من جميع الجهات، ويتم تهديد منابع النيل وطمبورتنا لاهية فى شهواتها. يتراجع اقتصاد الدولة ويعشعش الفقر فى البيوت وتموت الناس تحت الأقدام للوصول إلى رغيف العيش فى وقت قفزت فيه مجتمعات كانت خلفنا بقرون حتى صارت أمامنا بقرون، و»طمبورتنا» ذاهلة عن حقائق الكون غارقة فى حقائق الذات والشهوة. يموت أبناؤنا عبثا كل يوم ويدمن أخرون، أو يتطرفون أو يصيبهم الإحباط واليأس، وتنتشر الأمراض والأوبئة حتى صار المصرى صديقا لجميع الفيروسات القاتلة و«طمبورتنا» تنظر بعين ساخرة بلهاء، القائمة طويلة وستطول مع الأيام القادمة طالما «طمبورة» خرساء صماء لا تعرف غير شهواتها. إن اللحظة التى تمر بها مصر اليوم اكثر خطرا من العدوان الخارجي، لان اى عدو خارجى يمكن مواجهته والانتصار عليه، طالما كان المجتمع متماسكا، ومؤسسات الدولة فعالة، وجيشها مستعدا، ومصر اليوم تحتاج كل هذا وأكثر، تحتاج الى التماسك الاجتماعي، وفعالية المؤسسات، وقوة واستعداد الجيش، وبزوغ الامل فى غد افضل، ولن يتحقق هذا الا بالخروج من الحالة العبثية التى عاشتها بعد ثورة 25 يناير، التى كانت اعظم حدث تجلت فيه روح مصر وعبقريتها، ولكن لصوص الامل، وسارقى الاحلام، من البلهاء والانتهازيين؛ حولوا كل ذلك الى كابوس مؤلم مزعج جعل الكثيرين يتمنون العودة للوراء. ان اختيار رئيس لمصر، ايا كان ذاك الرئيس، هو الوسيلة الوحيدة لحماية مصر من الانزلاق الى حالة الفشل، او الاحتراب الأهلي، او الانهيار والافلاس الاقتصادي، واختيار الرئيس لابد ان يؤسس على شرعية حقيقية من انتخابات يشارك فيها غالبية المصريين، لان العالم لن ينظر فقط الى النسبة التى حصل عليها المرشح الفائز، وانما الى نسبة المصوتين ممن لهم حق الانتخاب، لذلك فإن مصر لن تحتمل وجود جماعة طمبورة وحزبها فى هذه اللحظة، ووجود عقلية ونفسية طمبورة يعني، لا قدر الله، ضياع مصر. وحزب طمبورة وجماعتها غارقون فى شهواتهم وغرائزهم التى يبررونها شرعا وشرعية، ويصطنعون لها أسسا أخلاقية لا أساس لها، فشعار عودة مرسى سراب، لم يحدث مثيل له فى التاريخ، ووهم يقود صاحبه الى الجنون، والوطن الى الضياع، والبكاء على رابعة والشهداء لايبرر سقوط مزيد من الشهداء، ويستحيل قبوله مسوغا لسقوط مصر وضياعها، وكل شعارات الشعوذة التى تبثها القنوات الفضائية الداعمة لمرسي، والمتاجرة بقميص عثمان او قميص رابعة، والتى تعيش على دماء الشعوب العربية دفاعا عن حرية وديمقراطية وتداول سلطة لا يعرفها اصحاب هذه القنوات ومن يعملون فيها ولا يعيشونها، كل تلك الشعارات هى من افيون الشعوب الذى يؤدى تعاطيه الى تحويل من يدمن عليه الى «طمبورة» اراديا وليس بسبب عاهة خلقية. ليت حزب «طمبورة» يشفى من الصمم، ويدرك المخاطر التى تواجه مصر، وتواجهه هو وأولاده واحفاده، ويدرك ان التاريخ لا يعود للوراء، وان عقارب الساعة لا تنتظر احدا، ولا تجامل احدا، وان ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا غالب الا الله، وان البكاء على الاموات لن يعيدهم، وحينها يختار من يشاء. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف