الإفتاء صناعة مهمة وعملية مركبة تحتاج إلى حِرفية ومهارة كبيرة، وهى مسئولية عظيمة، وأمانة ثقيلة، كما أنه منصب جليل، له أثره البالغ فى الفرد والمجتمع، كما أن الحاجة إليه تعد من أمس الحاجات، فليس كل الناس يحسن النظر فى الأدلة، ويعلم حكم الله فيما يعرض له من مسائل ومشكلات، فهو بحاجة إلى سؤال أهل العلم، ومعرفة حكم الله تعالى فيما يحتاجه من خلال فتاواهم وأجوبتهم، كما قال ربنا سبحانه: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، ولقد حثَّنا على الرجوع إلى أهل العلم لاستطلاع رأيهم فقال: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). ونظرًا لأهمية هذه الصناعة ومسئوليتها فى نفس الوقت باعتبار التبليغ عن رب العالمين، كان لا بد أن تمر الفتوى فى ذهن المفتى بمراحل أربع حتى تصل إلى المستفتى دون إبهام أو التباس أو غموض، وهذه المراحل تتمثل فى مرحلة التصوير، ومرحلة التكييف، ومرحلة بيان الحكم، ومرحلة إصدار الفتوى. وأولى هذه المراحل هى مرحلة التصوير؛ وفيها يتم تصوير المسألة من قبل المستفتى أو السائل فى واقعة نزلت به أو بغيره، والتصوير الصحيح المطابق للواقع شرط أساسى لصحة الفتوى ومطابقتها للواقع المعيش، فعدم صحة التصوير يؤدى إلى أن الفتوى الصادرة ستكون غير معبرة عن حقيقة الأمر، وعبء التصوير أساسًا يقع على السائل لكن المفتى ينبغى عليه أن يتحرى بواسطة السؤال عن الجهات الأربع التى تختلف الأحكام باختلافها، وكثيرًا ما يتم الخلط والاختلاط من قبل السائل بشأنها، وهى الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، كما ينبغى على المفتى أيضًا أن يتأكد من تعلق السؤال بالأفراد أو بالأمة لأن الفتوى تختلف باختلاف هذين الأمرين. والتصوير قد يكون لواقعة فعلية وقد يكون لأمر مقدر لم يقع بعد، وحينئذ فلا بد من مراعاة المآلات والعلاقات البينية، وبقدر ما عند المفتى من قدرة على التصوير بقدر ما تكون الفتوى أقرب لتحقيق المقاصد الشرعية وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة. وقد نص الإمام الغزالى على «أن وضع الصور للمسائل ليس بأمر هين فى نفسه، بل الذكى ربما يقدر على الفتوى فى كل مسألة إذا ذكرت له صورتها، ولو كلف وضع الصور وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث فى كل واقعة عجز عنه، ولم يخطر بقلبه تلك الصور أصلاً، وإنما ذلك من شأن المجتهدين».
وثانى هذه المراحل هى مرحلة التكييف؛ أى إلحاق الصورة المسئول عنها بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله، فنكيف المسألة مثلاً على أنها من باب المعاملات لا العبادات، وهذه مرحلة تهيئ لبيان حكم الشرع الشريف فى مثل هذه الواقعة، والتكييف من عمل المفتي، ويحتاج إلى نظر دقيق؛ لأن الخطأ فيه يترتب عليه الخطأ فى الفتوى، والتكييف قد يختلف العلماء فيه، وهذا الاختلاف أحد أسباب اختلاف الفتوى، والترجيح بين المختلفين حينئذ يرجع إلى قوة دليل أى منهم، ويرجع إلى عمق فهم الواقع، ويرجع إلى تحقيق المقاصد والمصالح ورفع الحرج وهى المقاصد العليا للشريعة.
أما المرحلة الثالثة فهى مرحلة بيان الحكم الشرعى الذى هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، ويؤخذ هذا من الكتاب والسنة والإجماع، ويتم إظهاره أيضًا بواسطة القياس والاستدلال، ويجب على المفتى أن يكون مدركًا للكتاب والسنة ومواطن الإجماع وكيفية القياس ودلالات الألفاظ العربية وترتيب الأدلة وطرق الاستنباط، وإدراك الواقع إدراكًا صحيحًا، ويتأتى هذا بتحصيله لعلوم الوسائل والمقاصد كالأصول والفقه واللغة والحديث ونحوها، وبتدريبه على الإفتاء الذى ينشئ لديه ملكة راسخة فى النفس يكون قادرا بها على ذلك، وكذلك تحليه بالتقوى والورع والعمل على ما ينفع الناس.
وآخر هذه المراحل هى الإفتاء أو إصدار الفتوى، أو تنزيل الحكم الشرعى الذى توصل إليه على الواقع، وحينئذ فلا بد عليه من التأكد أن هذا الذى سيفتى به لا يكر على المقاصد الشرعية بالبطلان، ولا يخالف نصًّا مقطوعًا به ولا إجماعًا متفقًا عليه ولا قاعدة فقهية مستقرة، فإذا وجد شيئًا من هذا فعليه مراجعة فتواه حتى تتوفر فيها تلك الشروط والضوابط. ولا يفوتنا التنويه على أنه إذا كانت الفتوى هى عملية تفاعل بين الحكم الشرعى المستنبط من الأدلة التفصيلية وبين الواقعة موضوع الفتوى فى إطار الواقع الذى تقوم فيه هذه الواقعة، فإن إغراق المفتى فى النصوص والأدلة والأحكام المستنبطة منها دون فهم وإدراك للواقع محل الفتوى والواقع الذى تقوم فيه هذه الفتوى هو الجمود الذى يفقد الشريعة مرونتها وقدرتها على مسايرة الواقع وكثيرًا ما يضع الفتوى فى غير موضعها، وكذا إغراق المفتى فى الواقع دون الاطلاع الكافى على النصوص والأدلة وفتاوى العلماء هو تفريغ للشريعة من مضمونها وإفتاء فى الدين بغير علم ولا هدى، وعليه فلا بد للمفتى من فهم الواقع فهمًا دقيقًا والإلمام بالنصوص والأدلة إلمامًا جيدًا، لكى تكون الفتوى معبرة عن الحكم الشرعى الصحيح الذى به يستقيم أمر المسلم. كانت هذه هى المراحل الأربع لصياغة الفتوى وهذا عرض موجز لها لتبسيط مفهومها للقارئ، وللحديث بقية لمزيد من مقالات د شوقى علام