ماذا كان سيفعل تشيخوف لو كان مواجدا اليوم فى القرم؟ السؤال تم طرحه أخيرا مع تأزم الموقف فى شبه جزيرة القرم ومن ثم ضمها لروسيا أو انضمامها لها. والسؤال كان يخص بالذكر القاص الروسى الشهير أنطون تشيخوف الذى أمضى أخر خمس سنوات من عمره فى القرم وتحديدا من عام 1898 حيث اضطر بسبب اشتداد مرضه السل أو الدرن الرئوى ونصيحة الأطباء له بالابتعاد عن بيته والذهاب الى القرم حيث الشمس والجو الدافئ والبحر الأسود.
وقد شيد تشيخوف بيالطا (القرم) منزلا صغيرا أبيض على مقربة من البحر مازال قائما حتى الآن بعد 115 عاما والمنزل المتحف يترتاده زوار يالطا. كما أقام القاص وكاتب المسرح والطبيب وكان فى نهاية الثلاثينيات من عمره بستانا، وفيه شجرة للكمثرى ذكر أخيرا أنها مازالت حية ليومنا هذا. ونعم يالطا تاريخيا شهدت فى فبراير عام 1945 «قمة يالطا» التى جمعت بين حلفاء الحرب العالمية الثانية وهم ونستن تشرتشل رئيس الوزراء البريطانى وفرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكى وجوزيف ستالين الزعيم السوفيتى ومن خلال هذه القمة يمكن القول بأنه تم رسم خريطة جديدة لأوروبا لما بعد الحرب العالمية الثانية. وبالطبع شبه الجزيرة لها تاريخ عريق يتذكره الشعوب حسب ذاكرتهم وحسب كتبهم .. وغالبا ما ينسون أو يتناسون ما جاء قبلهم أو ما جاء بعدهم!!
وحتى لا ننزلق الى السياسة وتناقضاتها وكيف تفرق بين الشعوب نعود الى تشيخوف وحكايته مع القرم ويالطا حيث قام هناك بكتابة «سيدة صاحبة الكلب» الرواية القصيرة أو القصة الطويلة التى امتعت الملايين عبر العقود المختلفة، والقصة تبدأ بهذه السطور «قيل ان وجها جديدا ظهر على الكورنيش، سيدة تصحب كلبا.أخذ دميترى دميتريتش جوروف الذى وصل الى يالطا منذ أسبوعين وألف المكان، يهتم بالوجوه الجديدة هو الآخر. ورأى وهو جالس فى جناح «فيرنيه» كيف مرت على الكورنيش سيدة شابة،شقراء، متوسطة القامة، تضع على رأسها «بيريه». ووراءها ركض كلب أبيض صغير» والترجمة العربية لأبو بكر يوسف الصادرة عن «دار الشروق» وبرنامج «ترجم» لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم.
وبما أنى لا أريد «أن أحرق الحكاية الرائعة» وأن أدفعك واحثك لقراءة هذه القصة الشيقة والممتعة التى بهرت و مازالت تبهر عشاق القص والسرد فى كافة اللغات. لذلك فلن أكشف لك ماذا حدث وما دار بين بطلى القصة وأين ومتى ولماذا وكيف اقتربا الاثنان هى وهو وماذا كان يدور فى عقل وما يفور فى قلب كل من دميترى و»سيدة صاحبة الكلب» واسمها آنا والأهم كيف صارا معا ولم يسيرا معا؟! فلذة أو متعة عبقرية السرد وقدرة الحكى لدى تشيخوف يجب أن تعيشها بتفاصيلها(كما يقول أحد الأصدقاء) لكى تدرك معناها وتتلذذ بطعمها وتسعى لتكرار حدوثها والحكى عنها بحماس لا تستطيع أن تخفيه. تشيخوف قبل أن ينهى سرده لهذه القصة الطويلة أو الرواية القصيرة بعدة فقرات يكتب: « أحبا هو وآنا سرجييفنا (وهذه هى صاحبة الكلب) بعضهما البعض كشخصين قريبين جدا، كأهل، كزوج وزوجة، كصديقين رقيقين،وبدا لهما أن القدر نفسه قد هيأهما أحدهما للآخر، ولم يكن مفهوما لماذا هو متزوج وهى متزوجة، كأنهما كانا طائرين مهاجرين، ذكرا وأنثى، أمسكوا بهما وأجبروهما على العيش فى قفصين منفردين، لقد غفرا لبعضهما البعض كل ما كانا يخجلان منه فى ماضيهما، وغفرا كل ما فى حاضرهما، وأحسا أن حبهما هذا قد غيرهما كليهما». وبالتأكيد عليك أن تقرأ بنفسك القصة حتى تشاطرنى الاستمتاع بها وبعبقرية تشيخوف. وقد قيل كثيرا إن زوار يالطا والمترددين على الكورنيش بها يبحثون دائما ويسالون عن دميترى وآنا وأين كانا يلتقيان.. وأين كان الاحتضان وأين كانت القبلة؟!
وحكايات تشيخوف مع القرم عديدة فيها المزيد من الشيق والممتع وتحتاج منا الى وقفة أخرى والتفاته أخرى، خاصة أن الأنظار كانت ومازالت تتجه نحو القرم وأوكرانيا .. وبالطبع نحو روسيا والى ما جرى فيها ويجرى فيها من مواجهات ومصادمات بحجج وبراهين تاريخية وأيضا نعرات وطنية وخلافات عرقية بالاضافة الى طموحات وأطماع الساسة فى البقاء الأبدى وبسط نفوذهم وفرض كلمتهم، لذلك لم يكن بالأمر الغريب أن نجد وسط طوفان التعليقات السياسية والفتاوى الاعلامية (حتى فى وسائل الاعلام الغربية) حرص بعض الكتاب الجادين والمهمومين بالشأن الانسانى المتقلب والمقلق فى بداية قرننا الحادى والعشرين على اللجوء الى التاريخ وأحداثه والأدب وكتابه وما قاله وكتبه تشيخوف وأيضا العظيم تولستوى عما رأوه وشاهدوه وعاشوه فى القرم. وأتذكر هنا العبارة المتكررة دائما أن الروايات الروسية ليست لها نهايات سعيدة.. وفى موضع آخر أن الأدب الروسى هو أدب الأسئلة أكثر من كونها أدب الأجوبة.
ألم تكن النصيحة الغالية والحكمة الثمينة دائما: عندما تجد العالم من حولك مضطربا ومتخبطا ومحيرا فما عليك الا أن تلجأ لكتب التاريخ والروايات ففيها سوف تعايش نفوس تتعرى وقلوب تعترف وتجربة تتكلم وتفسير ينصح وتبرير يفضح وأيضا انطلاق يتحقق وانزواء يكشف، كما أننا سوف نجد فى تلك الروايات ملاذا للنفس البشرية وحيرتها المزمنة وسؤالها الدائم عن الاستقرار والسعادة والرضا، نعم لا تقدم لك غالبا هذه الصفحات وهذه الشخصيات الروائية الحلول الشافية الا أنها بالتأكيد سوف تخرجك وتحررك من ما أنت فيه.. من زنزانتك ومن سجانك، وتشعر أنك لست وحدك فيما تواجهه وأن التاريخ يكرر نفسه والانسان يكرر أخطائه، كما أنك غالبا ما تدرك أن الانسان عبر العصور كان دائما يتوق للحظة الصدق مع النفس ويشتاق لمن يجد لديه أومن يجد لديها تلك اللحظة الحلم ومعها الدفء الانسانى والونس الحاضن واللمسة الحانية .. حتى ولو كان كل هذا سيكون قصيرا ولبعض الحين. وقد حدث هذا ويحدث هذا فى القرم وفى روسيا وفى مصر وفى أمريكا أيضا!!