يحتفل العالم هذا العام بمرور مائة وستة أعوام على رحيل الكاتب العالمى أنطون بافلوفيتش تشيخوف، الذى مات عن أربعة وأربعين عامًا 1904، والذى اهتم بالدراما المونولوجية، والتى تركز على الحالة النفسية للشخصيات وحواراتها فى اللاوعى الذاتى، اهتم أيضًا بأدق التفاصيل الخارجية لتوظيفها فى انعكاسات هذه الدراما. ولد أنطون بافلوفيتش تشيخوف فى تاجانروج الواقعة على بعد ستمائة ميل من العاصمة روسيا، فى يناير 1860، كان الثالث من بين ستة أبناء، لجدَّ اشترى حريته بماله، ولأب كان من أهم التجار، لكن ظروف الحياة اللاحقة حولته إلى "بقال"!. لم يكن يعلم هذا الابن الذى عاش فى بيئة فقيرة، وطفولة معذبة إلى حد ما، بأنه سيكتب القصة والمسرحية إلى جانب دراسته للطب، لكى تساعده فى تأمين متطلبات حياته أثناء الدراسة، كما لم يكن يعلم أن الكتابة التى أصبحت غايته، ستجعله يتجاوز حدود موطنه الأم إلى العالمية. ولم يتمتع تشيخوف بمرح الطفولة وبهجتها، كان يحرس "البقالة" التى يديرها والده ويقسو عليه، فيسهر فيها حتى ساعة متأخرة من الليل ولعل هذا ما جعل نظرته إلى العالم الذى يحيط به مثل نظرة الكبار فكان يلاحظ المارة، ويصغى إلى أحاديثهم. لم تكن الكتابة هدفًا أو وسيلة يطمح من خلالها إلى إلقاء دروس فى علم الأخلاق والفلسفة، بل اكتفى بتصوير مشاهد حية كان ينتزعها من جحيم الحياة، ويرسمها بريشة الفن والإبداع، فجاءت لوحاته خالدة تنبض بالحيوية، وصورة رائعة للواقع الأليم الذى عايشه طوال حياته. إن موهبة تشيخوف فى رؤية العالم تضعه فى عداد تلك الفئة الرائعة من الكلاسيكيين فى القرن التاسع عشر، فقد رأى "ليف تولستوى" فيه فنانًا ليس له نظير، وفضله من حيث الشكل على "تورغينيف" و"دوستوفسكى" وعلى نفسه أيضاً، أما "مكسيم غوركى" فقال عنه: تعود قوة "تشيخوف" إلى أنه لم يختلق شيئاً أو يصور شيئًا لا وجود له فى الحياة، هذا هو "تشيخوف" الطبيب والأديب والإنسان، وأما "فلاديمير كوولينكو" فقد وصف واقعية "تشيخوف" بأنها فوق الواقعية، وقال: إن "تشيخوف" كان فى شبابه أشبه بشجرة بلوط فتية تفرعت غصونها فى شتى الاتجاهات على نحو لم يأخذ شكلاً محدداً بعد، ولكنها تنح عن الصلابة والجمال المتكامل لشجرة ستكون جبارة فى المستقبل. وأضاف "كورولينكو" كان وجه "تشيخوف" على الرغم مما يبدو فيه من ذكاء، يحمل تقطيبة معينة تذكرك بشاب قروى ساذج، و كان كذلك ذا جاذبية خاصة، وحتى عينيه الزرقاوين اللامعتين العميقتين كانتا تشعان فكراً، وكانت فيه فى الوقت نفسه، تلقائية تكاد تكون طفولية، وكانت السمة المسيطرة على هيئته كلها، وكذلك على كتاباته هى بساطة حركاته وأساليبه وحديثه فى بداية عام 7881 ظهر لتشيخوف كتاب (قصص منوعة) وهى التى نشرت فى مجلات (بودلينك) و(ستريكوزا) و(اوسكولكى)، وقد لفت هذا فور صدوره انتباه جمهور عريض من القراء، وقد حظى بنجاح كبير وبدأ الكُتَّاب يكتبون عنه. وبعد صدور كتاب (قصص منوعة) أصبح أنطون تشيخوف مشهوراً على الفور على الرغم من أن تقدير هذه الموهبة الجديدة كان مثاراً للخلاف والجدل وكان الكتاب يشع ببريق الفكاهة والمرح وبكثير من سرعة البديهة الأصيلة والإيجاز الفائق وقوة التعبير. يذكر أن ( تشيخوف ) كان عندما وصل إلى موسكو كاتباً مبتدئاً و مؤلفاً لبعض المقالات و الزوايا الصغيرة الفكاهية ، فقد انتسب إلى كلية الطب ، وأنهى دراسته الجامعية ، دون أن ينفصل أو يبتعد عن عالم الأدب ، وصار الطبيب الشاب يعالج المرض و ينشر فى المجلات الفكاهية مقالات و قصصاً قصيرة كان أجملها قد صدر بالاسم المستعار ( أنطوشا تشيخونته ) .كان تشيخوف يشعر على الدوام أن الأدب لا يشبع رغباته و طموحاته ، لذا سعى للولوج فى الحياة و المشاركة فيها ، و ظلت هذه السمة فى كيانه حتى النهاية ، وفى قرية ( ميليخوفو ) القريبة من موسكو ، التى أحبها تشيخوف ، عاش ست سنوات ساعد خلالها الفلاحين كطبيب ، وبنى المدارس وسافر إلى المحافظات والمناطق التى كانت تعانى من الجوع ، وفى أثناء انتشار وباء الكوليرا قدم ( تشيخوف ) بمفردات خدماته لمنطقة فيها الكثير من السكان ، ووضع حد الانتشار لهذا الوباء الفتاك كما شارك فى الإحصاء العام للسكان عام 7981 . كتب تشيخوف فى (ميلخوفو) أكثر من أربعين مؤلفاً وكانت هذه الفترة غنية بإنتاجه الأدبى، منها (البيت ذو العلية) و(النورس) و(الطالب) و(تشايكا) تناول فيها الحياة اليومية بسخرية لاذعة وصور مشاهد عائلية، وروى حكايات أبطالها التجار والطلاب والموظفين. ولما تفاقم مرض (تشيخوف) سافر إلى القرم أو (يالطا) بعيداً عن موسكو، حيث بنى لنفسه بيتاً (الكوخ الأبيض) فى يالطا وزرع حديقته بيديه، وظل كسابق عهده يساعد الجميع، ويستقبل كبار رجال الثقافة والأدب، ممن كانوا حريصين على زيارته بشكل مستمر مثل (تولستوي) و(غوركى) و(بونين) و(رحما نينوف) و(شاليا بين)، كما واصل الكتابة، وأبدع تلك الأعمال الشهيرة (حبوبتى) و(السيدة والكلب) و(الأخوات الثلاث) و(بستان الكرز).