أعاد منع الأزهر عرض فيلم «نوح» من جديد طرح الأسئلة المتعلقة بحدود الحرية والإبداع، حيث يراها قوم حقا أصيلا للإنسان لا محيد عنه، ويطالب آخرون بتقييدها حتى لا تتحول إلى عدوان على الآخرين يضرّ الناس فى دينهم ومعتقدهم. الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى يقف فى خندق المدافعين عن حرية الفكر والتعبير دون قيد أو شرط، ومحاورته قد تبدو الآن فرصة لإعادة فتح أسئلة الحرية. ما بين حظر الأزهر عرض فيلم نوح، وبين تأييد المثقفين والفنانين الفيلم، تجدّد مرة أخرى التوتر بين رجال الدين والمثقفين، فإلى متى هذا التوتر بين الجانبين؟ فى ظنى أن هذ التوتر كما تسمّيه أو هذا الخلاف سوف يستمر، لأن المثقفين بشكل عام يدافعون عن حرية التفكير والإبداع، وهى الحريات المنصوص عليها فى الدستور، لأن هذا هو عمل المثقفين ورسالتهم. الذى يحدث فى بعض الأحيان ولا أقول فى كل الأحيان إن بعض رجال الدين يحبون أن يتحولوا من دعاة ومعلمين مرشدين إلى أصحاب سلطة، وهم لا يستطيعون أن يكونوا أصحاب سلطة، إلا بالاتفاق والتحالف مع السلطة السياسية، وهكذا نجد فى كثير من الأحيان أن ما يقع من اضطهاد وقمع ومنع على الثقافة والنشاط الثقافى والمثقفين بفتوى دينية يتم بالاتفاق بين رجل الدين ورجل السلطة . يحمد للمثقفين دفاعهم عن حرية التفكير والتعبير، ولكن ماذا عن إساءة استخدام تلك الحرية؟ لا توجد حرية مطلقة طبعا، الحرية مقيدة بقيد هو: ألا تكون حريتى على حساب حرية مواطن آخر، القانون يقيد الحرية لكى يحمى الحرية، وينظم ممارسة الحرية ، وهذا هو الحد الوحيد الذى يجب أن نأخذ به وهو ألا تكون حرية شخص أو حرية جهة على حساب جهة ثانية أو شخص آخر. ولكن ما يعتبره البعض تجاوزا فى التعبير مثلا، بأى دعوى كانت: الآداب العامة أو العقائد الدينية، لابد أن يترك لتقدير المثقف والكاتب، ويترك أيضا للتصحيح، ومن شاء أن يصحح رأيا نشر، أو يعلق على عمل، أو يبدى رأيا فى قصيدة أو رواية، فله الحرية الكاملة. لابد أن نعوّل على المؤسسات المختلفة التى تتولى تصحيح الأمور، هناك البرلمان، والصحافة بكل أشكالها وتياراتها، وحتى فى داخل الحركة الثقافية نفسها هناك المحافظون والمجددون، ودون أن نترك هؤلاء المثقفين أحرارا لن نتجاوز ما نحن فيه أبدا، ما يعتبره البعض تجاوزا للحدود يصح أن يكون ضروريا ، لأن هذه الحدود قد تصبح قيدا بدعوى تجاوز الحدود. هل استطاعت هذه القيود التى يدافع عنها الجميع فى كل المجالات «الجامع والكنيسة والجامعة والمدرسة» أن تصحح أخلاقنا؟ هل ساعدتنا على إيجاد الحلول لمشكلات الأمية والمرض ولما نحن فيه من وضع مزر؟ فى حين أن المجتمعات الأخرى التى تتمتع بالحريات الممنوعة عندنا هى التى تتقدم وتتجاوز مشكلاتها. ولكن فيما نحن بصدده « فيلم نوح» ألا يعتبر «الأزهر» ورجاله هم «أهل الذكر» الذى طلب منا القرآن أن نسألهم ؟ طبعا، أنا لا أعترض على رأى الأزهر ، ولكن أعترض على أن يتحول هذا الرأى إلى سلطة منع ، فالأزهر له الحق فى أن يفتي، ولكن ليس من حقه أن يمنعنى ويمنع غيرى من المشاهدة، ومن حقى أن أدافع عن هذا الرأى، لأنى بكل بساطة لا أجد مانعا فى الإسلام يمنعنى من مشاهدة فيلم نوح وتشخيص الأنبياء. بالعكس, الفيلم قد يكون وسيلة من وسائل الهداية، وربما استطاع الفيلم إذا أتيحت له كفاءات فنية ومادية تسمح بأن يجسد المعنى الموجود فى النص الديني، فإن الفيلم فى هذه الحالة قد يؤدى دورا مهما للدين. برأيك ..لماذا فشلت حركة التنوير فى مصر؟ حركة التنوير فى مصر لم تحقق أهدافها ، لأن الحرية صودرت، ولكن عندما نقارن بين ما كانت عليه الثقافة المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين وما صارت إليه الآن سوف نجد أن الثقافة المصرية أضافت إلى الأدب العربى ما لم يكن فيه (الرواية، القصة القصيرة، المسرح، التجديد فى الشعر، السينما). وعلى الجانب الآخر,انظر ما حدث لفرج فودة ومحمد سعيد العشماوى ونصر حامد أبو زيد وحسن طلب، وما حدث لى أنا شخصيا ممن وقفوا لنا بالمرصاد. نصحك د. حسن الشافعى فى رده عليك أن تتجه إلى أعداء الديمقراطية الحقيقيين، بم ترد عليه؟ أعداء الديمقراطية الحقيقيون هم جماعات الإسلام السياسى. لكن البعض فهم أنه يقصد الحكم العسكرى؟ إذا كان يقصد الحكم العسكرى، فأنا معه، ويصح أن يكون الانسان ضابطا وينتمى للمؤسسة العسكرية دون أن يقيم حكما عسكريا، فإذا أقام حكما عسكريا فأنا ضده. على الجانب الآخر يصح للإنسان أن يدافع عن توجهاته الاسلامية، ولكن أن يقيم حكومة دينية ، فأنا ضده،وهكذا. أنا ضد الحكم العسكرى، وضد الحكم الدينى، لأننى مع الديمقراطية. لماذا تريد للإسلام أن يكون مجرد مستودع للتاريخ؟ بالعكس، أنا أدعو إلى تنقية الإسلام من شوائبه، والتجديد فيه، والاجتهاد للوصول إلى حلول نابعة من الاسلام ونستطيع بها التغلب على المشكلات التى تواجهنا الآن، ونحقق فتوحات ،فهذا هو المطلوب. ولن نستطيع تحقيق هذا إلا بالحرية، وليس بالمنع وإغلاق باب الاجتهاد والعودة للعصور الوسطى. وبدون ما قدّمه الطهطاوى وبدون ما قدّمه محمد عبده ، ومصطفى عبد الرازق. نحن لن نستطيع أن نحقق إحياء إسلاميا صحيحا إلا بالحرية. ولكن هناك من يقول بالدولة الاسلامية التى تختلف عن الدولة الدينية , حيث تكون الأمة فيها مصدر السلطات, شرط ألا تحلّ حراما ، أو تحرّم حلالا؟ هذا الشرط يجعل الذين يتحدثون عن الحلال والحرام هم الحكّام. إذن من يقول هذا حرام وهذا حلال ؟ المفروض الذى يقول هذا حرام وهذا حلال هم رجال الدين، ولكن لا ينبغى أن يكونوا فى السلطة، ولا ينبغى عليهم أن يلزمونى بما يقولون. إلى متى تستمر لعبة شد الحبل بين العلمانيين والاسلاميين؟ سوف تستمر فى نظرى. لماذا؟ لأن المساحة التى كان يحتلها الفكر العربى الاسلامى الجديد انحسرت خلال العقود الخمسة أو الستة الماضية، وزاد منع ومصادرة الآراء، ومطاردة المثقفين واغتيالهم ماديا ومعنويا. الآن ثقافة هذه الجماعات هى التى تسود، إضافة إلى هذا أن بعض المجتمعات المحافظة المجاورة لنا بما كان لها من سلطة مادية على فئات كثيرة ممن يشتغلون بعلوم الدين استطاعت أن تؤثر. أصبحت الساحة ملكا لهؤلاء، وأصبحوا يتحكمون ويفرضون أفكارهم ، حتى الدستور الذى نصّ على أنه لا يصح أن تقوم الأحزاب على أساس دينى، فوجئنا ببعض الأحزاب الدينية تشارك فى صياغته، لأنها فرضت نفسها ، الصراع كان عنيفا بين مؤيدى الدولة المدنية وممثلى الأحزاب الدينية الذين تغلبوا وفرضوا آراءهم. والصراع سوف يستمر ، ولكن لن تكون الغلبة لهؤلاء، لأن الحرية هى التى ستنتصر فى النهاية. ولكن د. طه حسين دعا إلى حاكمية القرآن على الدستور والقانون وقال ما نصّه «إنه من المقطوع به أن الأغلبية لن تقبل أن تخرج عند وضع الدستور على ما أمر به الإسلام, وانه ليس هناك مقتضى يسمح لنا بأن نعدل عن نص القرآن وإنه إذا وجد نص دينى صريح, فالحكمة والواجب ألا نعارض, وأن نكون من الحكمة ومن الاحتياط بحيث لا نضر الناس فى شعورهم, ولا ضمائرهم, ولا فى دينهم. وإذا احترمت الدولة الإسلام فلابد أن تحترمه جملة وتفصيلا, ولا يكون الإيمان إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعضه الآخر. ( لجنة مشروع الدستور، محضر لجنة الحريات والحقوق والواجبات العامة ، الجلسة السابعة ص 81- 121 طبعة وزارة الإرشاد القومى القاهرة»؟ لم أقرأ هذا الكلام لطه حسين من قبل، وأستغرب لو ثبتت صحته أن يقول هذا الكلام، لأننا نعرف طه حسين من كتبه الفكرية المختلفة، وآراؤه فى الفكر والتاريخ الاسلامى موجودة فى مؤلفاته «على هامش السيرة» و«الفتنة الكبرى» و«الشعر الجاهلى» وسواها.وإذا صحّت هذه المقولة، لوجب علينا أن نناقشه فيها، ولا نسلّم بها، لأننا نؤمن بأن الدستور ينظّم حياتنا فى الدنيا، والقرآن يقودنا إلى العالم الآخر.