فيلم "نوح" يدفع من جديد بقضية حرية الرأي والتعبير إلي الواجهة. ويبدو أن القضية ستتحول هذه المرة إلي مواجهة ثقافية جديدة ضد المؤسسة الدينية الرسمية في مصر. الأزهر يريد التأكيد علي حرصه علي التمسك بالقيم والأخلاق وثوابت المجتمع. ويستعيد سلطته القديمة في الهيمنة. في البيان الذي اصدره ضد الفيلم اعتبر أن عرض الفيلم "محرم شرعا ويمثل انتهاكا صريحا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي نص عليها الدستور والأزهر الشريف باعتباره المرجعية في الشئون الإسلامية". الدستور هو الكلمة التي تكررت أكثر من مرة في البيان، وفي خطاب ممثلي الأزهر في الإعلام، واشترط بعضهم أن يعتزل بطل الفيلم راسل كرو التمثيل شرطا لعرض الفيلم، حتي لا يظهر فيما بعد في أدوار "الفاسق"، وهي تفاصيل خائبة لن تمنع عرض الفيلم، ولا مشاهدته. لكن الأهم في المعركة هو استخدام الدستور أو محاولة تجريب قدرة بنوده علي المنع والقمع. وكأن الأزهر يحتاج هذا الدستور لممارسة المنع..تاريخ المؤسسة الدينية في قمع الإبداع ليس جديدا، سواء بدستور جديد أو قديم ! - 1 - ما هو النص الذي يستند إليه شيوخ الأزهر في منع ظهور الأنبياء والصحابة؟ لا شيء تقريبا. فالسينما فن حديث. الأمر مجرد اجتهاد منهم، قد يكون خطأ وقد يكون صوابا. وفي تاريخ السينما ثمة أفلام عديدة سمح الأزهر بعرضها. من بينها مثلا في عام 1938 فيلم " حياة المسيح وآلامه" وكان أول فيلم مصري عربي عن حياة المسيح ووافق عليه شيخ الأزهر محمد مصطفي الرفاعي، وقام ببطولة الفيلم في دور المسيح الفنان أحمد علام وشاركوه البطولة عزيزة حلمي في دور السيدة العذراء، سميحة أيوب بدور مريم المجدلية، سعد أردش بدور الفريسي، توفيق الدقن بدور قيافا، عبدالعليم خطاب في دور بطرس، إستيفان روستي في دور المولود أعمي وعبدالسلام محمد في دور المفلوج الذي صنع معه المسيح المعجزة. الفيلم الذي اخرجه محمد عبدالجواد، وكتب المادة الحوارية الأب أنطوان عبيد، وراجعها الدكتور طه حسين، عميد كلية الآداب في هذا الوقت..ولأننا لم نعرف سببا لموافقة شيخ الأزهر وقتها علي تصوير فيلم عن السيد المسيح، لم نعرف أيضا أسباب منع أفلام أخري..: في مايو 1926 عرضت شركة سينماتوغراف التركية علي يوسف وهبي القيام ببطولة فيلم " محمد رسول الله" كدعاية "مشرفة للدين الإسلامي الحنيف وعظمته وسمو تعاليمه" كما قال وهبي في مذكراته، ولكن ثار الأزهر علي الفيلم وحذر الملك فؤاد يوسف وهبي من السفر لتصويره...... بعد سنوات تحديدا في عام 1956 استقبلت مصر سيسيل دي ميل لتصوير فيلمه الشهير " الوصايا العشر" الذي قدم له سلاح الفرسان المصري جميع الامكانيات لانجاح التصوير، ومن يراجع الصحافة في ذلك الوقت يكشف الاهتمام بالفيلم الذي يتناول قصة خروج النبي موسي من مصر، ولم يعترض الأزهر علي التصوير او العرض. لأن المؤسسة العسكرية نفسها كانت تدعم الفيلم .في السبعينيات تحديدا عام 1977 اعترض الازهر علي فيلم "الرسالة" لمصطفي العقاد بحجة ظهور حمزة عم النبي في عدد من المشاهد، والمفارقة أن الفيلم اسهم في تحسين صورة الاسلام في الغرب..وكان العقاد مخرج الفيلم ضحية فيما بعد لتفجيرات الارهابيين في العاصمة الأردنية عمان. في التسعينيات اعترض الأزهر علي سيناريو فيلم " المهاجر" ليوسف شاهين، متعللا أن الفيلم يتناول قصة النبي يوسف، واضطر شاهين وقتها الي تغيير السيناريو وإجراء تعديلات واسعة عليه كي يتمكن من تصويره. كما اعترض الأزهر والكنيسة كليهما علي فيلم "آلام المسيح" لميل جيبسون، ولكن الفيلم تم عرضه في مصر بعد أن شاهدته لجنة من رجال دين من الجانبين، بينما اعترضت الكنيسة علي عرض فيلم "شفرة دافينشي" وطالبت بعدم عرضه في مصر. - 2 - من أين يأتي صراع المنع أو السماح...؟ هل هي مجرد اجتهاد العلماء..؟ قد يكون لدي الأزهريين مبرراتهم الخاصة التي تمنع ظهور الأنبياء أو الصحابة، ولكن ما لم يكن مفهوما هو اعتراضهم علي عرض فيلم "الإرهابي" لعادل إمام بحجة السخرية من رجال الدين وتقديمهم بصورة سلبية. أي ان القدسية التي منحت للأنبياء تمتد وتنتشر لتشمل صحابة يمكن الخلاف علي بعض مواقفهم، وما أكثرها في كتب السيرة، وتمتد أكثر لتشمل إضفاء قداسة علي رجال الدين أنفسهم...واعتبارهم فوق مستوي النقد أو التناول.. لم يغفر الأزهر حتي الآن لطه حسين ما كتبه عن بعض شيوخ الجامع في " الأيام". لايزال كتابه في مرمي نيران الأزهر وشيوخه سنويا، بل إن النسخ التي درسها الطلبة في المدارس حذف منها المقاطع التي يسخر فيها العميد من شيوخه الأزهريين، رغم أنه لم يكن يبالغ أو يتخيل..فالأيام سيرة ذاتية!ما لا يريد أن يتفهمه بعض الشيوخ أن الأزهر ليس هيئة كهنوتية، وإنما هو مجرد مؤسسة في دولة حديثة، لا في دولة ثيوقراطية حتي لو حاول البعض، وما ينبغي أن نتصدي له ونقاومه بقوة رغبة بعض أفراده في ذلك تحويله إلي " كنيسة "إسلامية"...ولا نراهن علي كون شيخ الأزهر في لحظة ما شيخا مستنيرا، لأن الصمت علي منع فيلم سيؤدي بعد ذلك ببعض هؤلاء الشيوخ إلي مطالبة الأقباط بدفع الجزية ! - 3 - لماذا نوح؟ بعيدا عن قصة الفيلم الذي لم يشاهده شيوخ الأزهر، ولا الجمهور حتي الآن. هل قرأ الشيوخ كتب التراث الإسلامي؟ كثير من هذه الكتب، وبعضها يتم تدريسه في الأزهر، اوردت قصصا وحكايات عن الأنبياء، تخالف في مجملها ما جاء في النصوص المقدسة، لم يطالب أحد طوال العصر الإسلامي قبل أن ندخل في عصور الانحطاط بتهذيب هذه الكتب أو حرقها. قصة نوح نفسها في مثل " البداية والنهاية"..وتفسير القرطبي وابن كثير وغيرهم تعتمد سردا أسطوريا، يتجاوز حتي خيال السينما الجامح. نقرأ أن نوح كان شديد البياض عند الولادة بحيث امتلأت الغرفة بالضياء عند ولادته وأنه بعد ولادته بلحظات بدأ بالصلاة والدعاء للخالق الأعظم. ونقرأ كثيرا حول اختلافات العلماء حول المدة قضاها في بناء سفينته هل120 عاما، أم 150 عاما؟ قيل إنه كان يزرع الشجر وينتظر وينشره مائة أخري أو أربعين سنة، وقد أمر أن يطلي باطنها وظاهرها بالقار، وجعل منها ثلاثة طوابق، جعل الأرض منها للحيوانات والوحوش، وثانيها لبني الإنسان وأعلاها للطيور. قال ابن عباس: "آمن من قوم نوح ثمانون إنسانا". فبدأ بتحميل حوالي ثمانين رجلا معهم نساؤهم في السفينة، وانفجرت الأرض عيونا وهطلت السماء وارتفع الماء حاملا السفينة وهي تجري بهم في موج كالجبال مائة وخمسين يوما وهلك الباقون ولم يبق الله علي الأرض من الكافرين ديارا، فأرسل نوح الحمامة فمرغت رجليها في الطين وحملت إليه غصن زيتون، فلما رأي ذلك علم أن الماء قد انحسر. ويروي عن ابن عباس: أن أول ما دخل من الطيور الدرة، وآخر ما دخل من الحيوانات الحمار، ودخل إبليس متعلقا بذنب الحمار. وقيل: لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه: وكيف نطمئن أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد ؟ فسلط الله عليه الحمي فكانت أول حمي نزلت في الأرض، ثم شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا، فأوحي الله إلي الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها. حكايات أسطورية لم تلتف كثيرا إلي الدلالة والمغزي..واهتمت بالتفاصيل الصغيرة، وهي تفاصيل فنية بالأساس، تهم الفن أكثر من أي شيء آخر. فما الفرق بينها وبين " فيلم سينمائي" قد تصل رسالته ( التي هي نفس الرسالة في كتب التراث الإسلامي) إلي ملايين من البشر لا يقرأون ربما كتب التراث! والأهم أيضا أن نوح لا يخص المسلمين فقط، بل يخص كل أصحاب الديانات السابقة، إذن هل يسعي الأزهر كمؤسسة دينية تختص بالشأن الإسلامي أن يحدد لأصحاب الديانات الأخري ما ينبغي أن يشاهدوه أو يقرأوه. - 4 - في دراسة بعنوان "المقصلة والتنور: حرية التعبير في مصر " لنجاد البرعي اعتبرت الدراسة أن المؤسسة الدينية في مصر شكلت أداة قمع رئيسية لحريات التعبير من خلال الآداب والفنون وغيرها، كما أنها شكلت مناخاً مجتمعياً مؤهلاً لتقييد حرية التعبير بأشكالها المختلفة، وروجت لأشد التفسيرات الدينية تراجعاً، وأصبحت نتيجة نقص المناخ الديمقراطي والتعددي تشكل ذراعاً تتكئ عليه الدولة التسلطية من أجل تمرير قراراتها المختلفة، وبعبارة أدق فإن التحالف بين الاستبداد السياسي والرجعية الدينية الرسمية وشبه الرسمية كان هو السمة المميزة للفترة.( تتحدث الدراسة عن بدايات القرن الحادي والعشرين)، واعتبرت الدراسة أن قرار المصادرة التي يقوم بها الأزهر كان ذا أبعاد سياسية أكثر منها دينية، وهو ما يؤكد أن الأزهر لا يخدم فقط جماعة الإخوان المسلمين فكرياً، ولكنه علي استعداد لتقديم خدماته للنظم التسلطية أيضاً..واعتبرت الدراسة أن مجمع البحوث يشكل ما يعرف بحائط صد ضد أي محاولات لمناقشة التاريخ الإسلامي، وبات يمد صفة القداسة شيئاً فشيئاً إلي أشخاص ليسوا مقدسين، كما باتت رقابة الأزهر تمتد حتي علي دواوين الشعر ويمد رقابته علي موضوعات تتعلق بأديان أخري مثل كتاب الاستفتاء الذي تم منعه لأنه يخالف رأي أهل السنة والجماعة في صعود السيد المسيح ونزوله، ووجه الغرابة هنا أن الأزهر يريد أن يفرض حتي علي الديانات الأخري تصوراته المعتقدية لديانتهم. - 5 - في عام 1994 أرسل الأزهر إلي قسم الفتوي والتشريع بمجلس الدولة يطلب تحديد اختصاصاته واختصاصات وزارة الثقافة في التصدي للأعمال الفنية والمصنفات التي تتناول قضايا إسلامية، وتصدي للفتوي المستشار طارق البشري الذي كان نائبا لرئيس مجلس الدولة وقتها( أصبح فيما بعد رئيسا للجنة تعديل الدستور بعد ثورة يناير..والتي عرفت بمعركة الصناديق بين الإسلاميين المتطرفين والقوي الديمقراطية وقادتنا إلي حالة الاستقطاب التي لازلنا نعاني منها حتي الآن)..البشري منح في فتواه الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية سلطات مطلقة مكنته من أن يتصدر " لفحص المؤلفات والمصنفات التي تتعرض للإسلام وإبداء الرأي فيها، وحق مصادرتها. الفتوي وقتها كانت مخالفة لنصوص دستور17 ولكل المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، ولكنها منحت أعضاء مجمع البحوث الإسلامية حق الضبطية القضائية، أو ما يعرف بالشرطة الدينية التي من حقها اقتحام اي مكتبة لبيع الكتب ومصادرة ما يروق لهم، أو حتي اقتحام دور العرض السينمائية وطلب مصادرة الفيلم. أي أن ما يقوم به الأزهر تمتد إلي الهبة التي منحها لهم طارق البشري! - 6 - في كل معارك حرية "الرأي والتعبير"، دائما ما يستخدم المثقفون المدافعون عن " الحرية" آليات خطاب دفاعي مستمد من خطاب كارهي حرية الرأي والتعبير. كأن نستخدم حكايات من التراث عن اعجاب النبي محمد بالقصيدة الغزلية " البردة" لكعب ابن زهير وانصاته لها ومنحه بردته، أو الاستشهاد بمقولة الإمام مالك:" لو احتمل كلام المرء الكفر من تسعة وتسعين وجهاً واحتمل الإيمان من وجه واحد لحملته علي الإيمان "..وغيرها من قصص وحكايات تراثية. علي الجانب الآخر هناك رجل دين سيوفر له التراث مواد خصبة تؤيد وجهه نظره في قمع المختلفين.. تصل في بعض الحكايات إلي القتل والحرق مما لا تستوعبه موسوعات التعذيب. سنجد أنفسنا أمام خطابين مختلفين، بل متناقضين، ولكنهما يستندان إلي "التراث" ذاته. وكأن الحرية تحتاج لتأكيدها إلي حكايات من التراث! آخرون، من القوي المدنية، سيتحدثون عن قدرة أصحاب الفن علي الحديث عن الفن، فلا يتحدث عن الكتابة إلا روائي، ولا عن الشعر إلا الشاعر، ولا عن السينما إلا من يعمل فيها، أي تحويل الفن إلي " كهنوت" للمتخصصين. لابد أن تبدأ المعركة بأن من حق الجميع في القراءة والمشاهدة والحكم والتأويل، بما في ذلك الأزهر والكنيسة، ولكن لا يجوز لأي جهة مصادرة حق المبدع في أن يعبر عن أفكاره ورؤاه كما يشاء بلا تهديد أو قتل مادي أو معنوي! لا مكان للرقابة. هي الآن مجرد "وهم" في " رءوس" من يتوهمون أنهم يمثلون سلطة، سواء أكانت هذه السلطة سياسية أو دينية أو اجتماعية..ولكنهم في الحقيقة مجرد "ديناصورات" مكانهم الطبيعي متحف الكائنات المنقرضة. كان يمكن أن نتحدث عن رقابة قبل عشر سنوات...عندما كانت المنافذ محدودة، عندما الدولة تستطيع أن تتحكم في الهواء...لكن كيف يمكن لها أن تفعل ذلك الآن في مجتمع مفتوح.. لا تملك سوي مصادرة الجسد(قتلا أو سجنا أو تعذيبا)، وهو الأمر الذي يعني باختصار فقدانها للقدرة علي الهيمنة أو تقديم خطاب سيطرة..ما يفقدها أساسا كونها " سلطة" ويحولها إلي مجرد "عصابة" ! - 7 - سيعرض الفيلم سواء أوافق الأزهر أم لا. سواء استجابت وزارات الإعلام والثقافة والداخلية وقررت منعه. سيشاهده في يوم عرضه في أمريكا ملايين في مصر، ربما لم يكونوا ليسمعوا بالفيلم، لولا الدعاية المجانية التي قدمها له شيوخ الأزهر...لا يعرف الأزهريون أن هناك برنامجاً يسمي "تورينت" يمكن من خلاله تنزيل كل شيء..كل شيء! وسط كل هذا الضجيج يبق السؤال الأهم: هل يستجيب راسل كرو لنصيحة الشيوخ ويعلن اعتزاله التمثيل..حتي يسمح هؤلاء الشيوخ بعرض الفيلم في مصر!