يقول عميد الأدب العربي د. طه حسين «إن كل أديب لا يستقي مادته وروحه من حياة الشعب فليس أديبا ولا هو بكاتب». وفي كتابه «التحليل الاجتماعي للأدب» يضيف أستاذنا السيد يس للروائي الموهوب صفة المؤرخ و الناقد اجتماعي، مستشهدا في ذلك بثلاثية نجيب محفوظ باعتبارها مدخلا لفهم التحول في المجتمع المصري في بداية القرن العشرين. في سياق المقولتين السابقتين وفي خضم متتالية أحداث، آقربها فتنة أسوان، تستهدف تنافر المجتمع و تقسيمه، هل يمكن لأوراق أدبية أن تكشف المسكوت عنه وتبوح بما لم ولن يرد في التحقيقات وإن كان أصل الداء؟! ومع كل الاحترام لما ستسفر عنه التحقيقات أو مجالس الصلح لاحتواء الأزمة، فلنحاول أن نكتشف عبر مرايا الأدب وقراءة تركيبة مجتمع الجنوب، كيف أشعلت عبارات بذيئة علي جدار نيران فتنة بين أهل محافظة اشتهروا بأجمل ما في أخلاق أهالينا في الجنوب. فباستعراض سريع لمئات الأعمال الدرامية التي قدمها الراحل صفاء عامر، ومؤلفات (من قبيل «بوسطجي» يحيي حقي و»طوق و إسورة» يحيي الطاهر عبد الله و»خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر و»نوستالجيا» محمود أبو دومة و»عمرة الدار» لهويدا صالح و»صمت الجبال» لماهر مقلد و»كحل حجر» لخالد إسماعيل وغيرها، أو أشعار أمل دنقل أو عبد الرحمن وكرم الأبنودي وغيرهم من أبناء الجنوب) تطالعنا لوحات سردية حيّة، تروي تفاصيل الحياة في صعيد مصر، وتعكس المخزون الثقافي المستمد من خريطة بشرية، ترسمها ملامح أشراف وهوارة وقبائل عربية ونوبيون وغجر(الحلب) وإن اختلفوا في العرق والنسب، يجمعهم وطن وانتماء لمصر.. فمنهم تشكلت بيئة مصرية فرض فيها التنوع قوانينه الصارمة، لنصبح إزاء مجتمع ما يزال رمزا للحضارة المصرية القديمة.. يحمل سمات كرم الضيافة والإيمان بالله وبالأولياء، ولكن تحكمه تركة ثقيلة من العادات والمعتقدات والمشاكل كالثأر ومفاهيم العيب وكل أشكال التهميش، إضافة لمشكلة تفرق الأسر النوبية بين أسوان وكوم أمبو قبل خمسين عاما، الأمر الذي مهد وسيمهد الأرض أمام أي»لهو خفي أو معروف» لإشعال الفتنة. فإذا ما تحولنا لأهالينا أصحاب الجذور النوبية الذين يمثلون أقلية في أسوان (إذ أن معظم النوبيين طبقا لزميلنا الأستاذ حسن إمام، النوبي الأصل، يتمركزون في كوم امبو) نكتشف عبر إبداعاتهم مدي إحساسهم بالعزلة وحلمهم بالعودة لأرض الجدود. ولقد عكس الأدب النوبي هذه المعاناة وتعلق القلوب بأرض هجروها واختزال تاريخ النوبة في مجرد فولكور، عبر صيغ مشبعة بعواطف وانفعالات تعبر عن الاغتراب والشعور بالأنا في مواجهة الآخر. ففي رواية الشمندورة، أيقونة السرد النوبي التي نهل منها كتاب النوبة، سجل الأديب النوبي محمد خليل قاسم غرق النوبة تحت طوفان مياه السد العالي وحركة أهل النوبة البسطاء في قراهم، إضافة للحراك السياسي لأهل النوبة. وفي رواية «دنقلة» ومجموعة «واحد ضد الجميع» عبر إدريس علي عن عمق الإحساس بضياع البلد النوبي والحلم بالعودة إليه. وفي رواية «بين النهر والجبل» رسم الأديب حسن نور حالة النوبيين المصريين في موطنهم الجديد وحلمهم بالعودة، بينما حاول حجاج أدول في روايتيه «الكشر و معتوق الخير» استعادة الطقس السحري وفانتازيا الخرافة في النوبة الغارقة والجديدة. وفي ديوان نوديت من وادي النخيل تشي«لامية النوبة» للشاعر النوبي محيي الدين صالح باعتزاز بتاريخ وحنين لجذور وحمية تغلفها رقة المشاعر فيقول «هنالك آباء يخلد ذكرهم- وحكمتهم سارت عليها المحافل- (فلقمان) منا وهو من سادة الحجي- وكم من وجيه وهو في الناس خامل-ومنا (بلال والنجاشي).. كلهم رجال تقي حقا فمن ذا يفاضل- (وذو النون).. قطب العلم خلد عندما -سعي بخطاه الزاهدون وواصلوا». ويبكي الشاعر أرضه فيقول «خذلناك يا أرض العمالقة الأُلي- تهاوت نخيل كان يرجي بقاؤها- قرونا فماتت شيعتها الفسائل- عزائي لقومي.. ما بقيت وما بقوا- ليعلموا أنى ما سلوت وما سلوا- ويا قارئ الأبيات عفوا فإنني- أُساقيك كاس المر... لا أتجاهل- ورحماك يا رباه إنى بهجرتي- رضيت... ولكني للطفك سائل..» وأخيرا، هل فيما سبق ما يشي بالأوتار التي تم العبث بها لإثارة الفتنة؟ هل حملتني الظنون بعيدا عندما تصورت أن جزءا لا يستهان به من محاولة استعادة سكينة الوادي السعيد وتخفيف أنينه يكمن في قراءة ما بين سطور ما دونه المبدعون؟! لمزيد من مقالات سناء صليحة