ماسكاجرو.. مرحبا.. يهمسها النهر بالنوبية الحميمة للسمر العائدين بقلوب هزمتها الذكري.. عن بيت ونخل وحجر استسلمت للغرق.. علي مرمي دمعة من عيون أصحابها التي ظل المشهد معلقا بها.. وأورثوه الصغار فكبروا ليحكوه رواية وشعرا وأغنية ويحفظوه في وجدان فاض بالإرث وبحث عن حروف تدون تفاصيله القديمة وترسمه زخارف تزين البيت والملابس ماسكاجرو.. مرحبا ينشدها النهر وحلم العودة علي مبعدة دقات قلب أهل النهر أهل النوبة.. في رواية' أند وماندو' التي تعني بالنوبية' هنا وهناك' حاول البطل, وهو كاتب, مع عروسه, الفنانة التشكيلية, إعادة خلق القرية النوبية التي نشأ فيها في مكان آخر, بعدما اضطرا مع أهليهما للخروج من مسقط رأسيهما عقب بناء السد العالي, فاختارا منطقة المرج مسرحا لإعادة الحلم القديم.. ربما لأن المرج منطقة مشابهة لأرض النوبة فهي تقع في حضن النهر وبها غابة من النخيل تذكرهما بالوطن القديم. لكن تحولات الأقاليم والأزمنة جعلت من المرج سجنا للحلم فغادرها العروسان بحثا عن ملاذ آخر او مكان جديد لإعادة إنتاج حلم العودة للأرض القديمة.. تتقاطع الرواية مع حياة كاتبها الروائي يحيي مختار الذي غادر مسقط رأسه- قرية الجنينة والشباك النوبية- منذ طفولته إلي القاهرة حيث صار روائيا يعني في أعماله بالهم النوبي ويرسم خارطة حلم العودة, مثله في ذلك مثل عدد من الروائيين ومنهم حجاج أدول ومعهما باحثون مثل شيخ باحثي النوبة محمد جدو كاب والشاعر الكبير صاحب أنشودة العودة النوبية مصطفي عبد القادر. وهؤلاء كانوا ضيوف شرف المهرجان الثقافي النوبي الأول الذي أقيم أخيرا بالسودان في مدينتي الخرطوموحلفا. المهرجان قدم قراءة للمشهد الثقافي النوبي علي محاور عدة أهمها الأدب واللغة والتاريخ والموسيقي, واجتذب عددا كبيرا من الجمهور وصل في إحدي الحفلات الشعرية الغنائية إلي01 آلاف متفرج في مدينة لا يتجاوز عدد سكانها4 آلاف نسمة هي مدينة حلفا حيث وفد إليها النوبيون من الخرطوم وعدد من القري النوبية السودانية من الذين طردهم السد والنهر بعيدا الي خشم القربة علي مبعدة600 كيلومتر من حلفا القديمة.. الأدب النوبي عندما دخلت اتحاد الكتاب السودانيين لمتابعة ندوة عن الأدب النوبي لم أشعر بتلك الغربة التي كثيرا ما تنتابني عندما أجد نفسي محاصرة بالمثقفين.. فالجو هناك كان وديا والبسمة عنوان السؤال والإجابة رغم ما ظهر من اختلافات حادة في بعض الأحيان بين المشاركين في الندوة.. كان الحضور المصري لافتا حيث قدم الباحث السوداني الدكتور محمد المهدي بشر ورقة عن الأدب النوبي استند خلالها علي كتاب' ونسة مع الأدب النوبي' للروائي المصري حجاج أدول, وهو ما عرضه للانتقاد خلال الندوة لأنه لم يرتكن الي قراءته هو بالأساس للأدب النوبي, ولكن عذره ان الادب النوبي عندما يطلق المصطلح فإنه ينسحب فورا علي الإبداع المصري الروائي. قال بشر إن الأدب النوبي بدأ شعرا مع ديوان' ظل النخيل' للشاعر محمد عبد الرحيم إدريس في العام8491, لكن الشعر النوبي تراجع بعد ذلك( ولم يذكر الباحث محاولات زكي مراد وإبراهيم شعراوي). وقال إن الأدب النوبي صار جنسا أدبيا له ملامح خاصة تتعلق بالمكان والنهر والهم النوبي بشكل عام .. وبدأت موجته الأولي في8491 لكن سرعان ما تراجع هذا الأدب ربما بسبب الثورة وبسبب عدم وجود محفز للكتابة إذ يرتبط الأدب النوبي طوال تاريخه بالمشكلة السياسية, وقد برزت مشكلة التهجير القسري لأبناء النوبة مع السد العالي ومع هذه السنوات ظهرت رواية الشمندورة للروائي النوبي محمد خليل قاسم التي تعد فتحا إبداعيا في السرد العربي كله في الموجة الثانية.. ثم ظهرت الموجة الثالثة التي برزت فيها أسماء يحيي مختار وحجاج أدول وإدريس علي وظهر ما يمكن تسميته مصطلح الأدب النوبي وهو مصطلح غامض لا يزال يثير إشكالية نقدية عند تحديده. اذ يقبل به البعض علي اساس انه تعبير إبداعي عن شكل سياسي واجتماعي لشريحة من المجتمع فيما يرفضه البعض باعتبار ان الإبداع الذي يطلق عليه هذا الاسم لا يكتب بلغته الاصلية وإنما يكتب بالعربية.. وبعد هذه الموجات انحسر استخدام المصطلح الخاص بالأدب النوبي وبدأ الحديث عن إبداع روائيين نوبيين. في مداخلته أكد الروائي حجاج أدول المولود في الأربعينيات من القرن الماضي في الاسكندرية أنه أديب انساني أولا ومصري ثانيا ونوبي حتي النخاع, مشيرا إلي أنه لا يمكن الفصل بين ينابيع ذاته فهو كل لا يتجزأ.. وقال انه يغضب عندما يشير اليه الناس باعتباره أديبا نوبيا فهو أديب مصري, مشيرا الي انه كان حريصا علي نوبيته والإشارة إليها في أوقات شعر خلالها بأن ثقافته النوبية وخصوصيته تتعرضان للتذويب القسري, مثلما تعرضت أسرته في الثلاثينيات من القرن الماضي للتهجير القسري بسبب تعلية خزان اسوان, فكان حرصه في تلك الظروف علي إبراز نوبيته وانه أديب نوبي يعبر عن قضية النوبة وحلم أهلها في العودة إلي أرض الأجداد. ' ففي التسعينيات من القرن الماضي عندما بدأ استخدام اصطلاح الأدب النوبي كان هناك رفض من قبل السلطة الحاكمة التي كانت حريصة علي تهميش القضية النوبية والنوبيين, ومن قطاع عريض من الشعب المصري بسبب سيادة نظرية المؤامرة التي ربطت بين إطلاق المصطلح وبين الحديث عن انفصال النوبة وهو وهم كبير لأننا كنا ومازلنا نتحدث عن احترام الخصوصية فقط لا الانعزال.. وبعد ثورة52 يناير تغير الأمر وبدأ تأكيد احترام المواطن المصري لنفسه ولغيره فبدأ الملف النوبي يحظي باهتمام بعد طول تهميش واضطهاد ومن ثم لم أعد أهتم بالإشارة إلي انني أديب نوبي. بدأ الروائي يحيي مختار مداخلته برفض مصطلح الأدب النوبي لأن الأدب هو اللغة التي يكتب بها ومادام الأدب الروائي الذي يكتبه مع زملائه أدول وإدريس علي وحسن نور يكتب باللغة العربية فلا يمكن تسميته بالأدب النوبي بل هو إبداع خاص يثري الادب المصري او التيار المصري في الرواية.. واعترض مختار علي مقولة تهميش الإبداع النوبي او اضطهاد المثقفين النوبيين مؤكدا ان حجاج أدول صدرت روايته عن المجلس الاعلي للثقافة بتفرغ ونال جائزة الدولة التشجيعية من وزارة الثقافة المصرية وهي الجائزة التي نالها مختار أيضا,'.. فكيف يمكن الحديث عن تهميش رسمي للإبداع النوبي؟ كما ان شيخا من شيوخ النقد المصري هو الدكتور شكري عياد أبدي اهتماما لافتا بالروايات التي يكتبها النوبيون وأفرد مساحات كبيرة في مجلة الهلال للحديث عنها.. ثم تحدث مختار عن رواية صديقه القديم محمد خليل قاسم' الشمندورة' وكيف تمت كتابتها في السجن الذي تزامل فيه مع قاسم في إحدي قضايا الحركة الشيوعية المصرية وقال إن قاسم بعد أن قضي سنوات في السجن أخرجوه في جولة حول القاهرة ليري معالم التغيير في المجتمع وكان ذلك عام9591, وطلبوا منه أن يكتب ورقة ضد الفكر الشيوعي فرفض, فأعادوه إلي السجن- وكان في سجن الواحات هذه المرة- ومع بداية الستينيات بدأ الكلام عن مشروع السد العالي وتهجير النوبة, فأطلق ذلك داخله مشروع رواية' الشمندورة' التي تعني' الفنار' بالنوبية.