كانت اتفاقيات كامب دافيد (17 سبتمبر 1978) ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التى تأسست على المبادئ التى تضمنتها اتفاقات كامب دافيد والتى وقعت فى 26 مارس 1979 هى خاتمة الحروب العربية الإسرائيلية التى امتدت لخمسة وعشرين عاما بدأت بحرب فلسطين الأولى عام 48 حتى حرب أكتوبر عام 1973. كانت كل حرب من هذه الحروب –كما سيتبين فيما بعد- تحمل بذرة الحرب التى تليها؛ حرب فلسطين الأولى أو ما يسمى بحرب 48 انتهت بعقد اتفاقيات الهدنة عام 49، ورغم انها نصت على وقف الأعمال العدائية بين الطرفين، إلا أن مصر أصرت على أنها طالما لم تتضمن حلا لأصل النزاع أى للمشكلة الفلسطينية فإن حالة الحرب "قانونا" state of belligerency تظل قائمة بين البلدين، وكانت مصر تهدف من ذلك إلى إيجاد سند قانونى لمنع الملاحة الإسرائيلية فى كل من خليج العقبة (مضيق تيران) وفى قناة السويس، حيث لم يكن الرأى العام ليتقبل أن يرى مرور العلم الإسرائيلى فى قناة السويس أو خليج العقبة. وبعد حرب السويس (56-57) التى كانت انتصارا سياسيا كبيرا لمصر.. ونتيجة للضغط الذى مارسه الرئيس أيزنهاور على إسرائيل فقد تم الانسحاب الإسرائيلى من سيناء وقطاع غزة فى مارس 57 إلا أن إسرائيل أعلنت على لسان وزيرة خارجيتها جوالدامائير يوم أول مارس 1957 أنه لو أغلقت مصر خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية مرة أخرى فإنها ستعتبر ذلك causes Belli أى بمثابة اعلان حرب. ولقد كان سكرتير الأممالمتحدة داج همرشلد يعتقد أنه بعد الانتصار السياسى الذى تحقق لمصر فى معركة السويس فإن هذا هو الوقت المناسب لكى تبدأ محاولة جادة لحل المشكلة الفلسطينية، أو على الأقل ايجاد ترتيبات متفق عليها تحول دون انفجار الموقف على الجبهة الإسرائيلية المصرية مرة أخرى. وقد حاول همرشلد سكرتير عام الأممالمتحدة آنذاك أن تتحول اتفاقيات الهدنة إلى ما يشبه ميثاق عدم اعتداء وفى رسالة بتاريخ 3 أبريل 1957 كتب للدكتور فوزى وزير الخارجية رسالة كرر فيها نصيحته فى انتهاز هذه الفرصة لكى تتخلى مصر عن فكرة حالة الحرب... كان ذلك فى قمة الموجة الثورية المصرية متمثلة فى حركة القومية العربية التى قادها الرئيس عبد الناصر، وبالتالى لم تكن مصر لتقبل بمقترحات همرشلد، وسار المد الثورى فى المنطقة باندفاع جماهيرى كبير، وانعقدت الوحدة بين مصر وسوريا فى فبراير 58، وفى نفس العام قامت الثورة فى العراق وانهار النظام الملكي، وانتهى عقد الخمسينات ومصر فى قمة مجدها كقوة إقليمية كبيرة ومهابة وأصبح الفكر القومى يملأ المنطقة العربية كما أصبح عبد الناصر شخصية دولية ذات وزن عالمي، كواحد من ثلاثة يقودون حركة عدم الانحياز ويدعم حركات التحرر الوطنى خاصة فى أفريقيا... وانتهى عقد الخمسينات بسنواته الزاهية ليأتى عقد الستينات بأعوامه الحالكة... انفكت الوحدة بين مصر وسوريا فبدأت حرب اليمن وما أدت إليه من استنزاف مصر عسكريا وماليا... وذهب أيزنهاور الذى أيدنا فى حرب السويس، وجاء جون كندى الذى أراد الانفتاح على العالم الثالث ودار حوار بينه وبين عبد الناصر وكان يسعى إلى ايجاد حل لمشكلة اليمن، ولكن لم تمهله المنية وجاء اغتياله فى مدينة دالاس بتكساس يوم 22 نوفمبر 63، وتولى الحكم فى الولاياتالمتحدة واحد من أسوأ رؤساء أمريكا قاطبة، وهو لِندن جونسون المعروف بعلاقاته الوثية بإسرائيل بل بانصياعه لها... وانقسم العالم العربي، وبدأت حرب اذاعية بين الدول العربية، وأصبح المسرح مهيئا لكل القوى المعادية لمصر لدفعها خطوة خطوة إلى مصيدة حرب 67. كانت أولى خطوات اصطياد مصر إلى حرب 67 هى التقارير التى أذيعت بأن إسرائيل ستضرب سوريا (قامت إسرائيل فعلا باسقاط عدد من الطائرات السورية) وأن إسرائيل حشدت قواتها على الحدود السورية وبالرغم من أن الجانب السورى نفسه نفى وجود هذه الحشود إلا أن الآلة العسكرية المصرية كانت قد تحركت فى مظاهرة عسكرية بحشد القوات المصرية فى سيناء تأكيدا لأن مصر ستتحرك عسكريا ضد إسرائيل إذا قامت بضرب سوريا، ولاثبات جديتها طلبت مصر سحب قوات الطوارئ الدولية وأصبحت القوات المصرية هى التى توجد فى شرم الشيخ لحراسة مضيق تيران ولم تكن مستعدة لأن ترى السفن الإسرائيلية تعبر المضيق فقررت مصر اغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية يوم 23 مايو 1967 فكانت حرب 5 يونيو العدوانية. حسبما سبق هددت وزيرة خارجية إسرائيل قبل عشرة أعوام؛ وعندما وقع هذا العدوان كان العالم منقسما بالنسبة لنا ولم يكن مثلما كان واقفا معنا أثناء حرب السويس وكما خسرت مصر المعركة العسكرية خسرت المعركة الدبلوماسية ولم تتوافر الأغلبية لمصر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وانفضت الجمعية دون صدور أى قرار. لم يبدأ الانفراج الدبلوماسى لمصر إلا عندما قامت البحرية المصرية باغراق المدمرة الإسرائيلية ايلات فى اكتوبر 1967 فتحرك العالم فى مجلس الأمن وصدر قرار 242 الذى نص على حزمة من المبادئ أهمها الانسحاب الإسرائيلى وانتهاء حالة الحرب، وحرية الملاحة فى الممرات المائية الدولية ثم تعيين ممثل للسكرتير العام للتوصل إلى تسوية سلمية بين الأطراف، وكتب محمود رياض وزير الخارجية رسالة أرسلها من نيويورك دون أن يطلع عليها أحد إلى الرئيس عبد الناصر ينصح بضرورة القبول بقرار 242، وكان هذا القبول هو المنطلق للتحرك الدبلوماسى فى فترة ما بعد نوفمبر 1967. بمجيء الرئيس السادات بعد وفاة الرئيس عبد الناصر بدا واضحا مدى الخلاف بين الرجلين... كان عبد الناصر شخصية كاريزمية جماهيرية وكان ذا فكر أيديولوجى متمثلا فى القومية العربية، بينما كان السادات على النقيض؛ كان شخصية برجماتية بعيدا عن الفكر القومي، كانت عين عبد الناصر على العالم العربى ككل، ولقد عاش ومات وهو يناضل من أجل العالم العربى وجيلنا يتذكر لحطة وفاته أثر إجهاده فى مؤتمر القمة العربى الذى حاول فيه حل الخلاف بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية أما السادات فكان همه أساسا هو استعادة الأرض المصرية. كانت حرب أكتوبر ولحظة العبور الخالدة فى الضمير الوطنى هى المنطلق الذى تحرك من خلاله السادات لاستعادة سيناء ولكى تكون حرب أكتوبر هى آخر الحروب، وتغيير التحالفات مع الدول الكبرى من الاتحاد السوفيتى إلى الولاياتالمتحدة ذات التأثير الأكبر على إسرائيل وكان أكثر ما تجلى فيه هذا التحول فى ختام حرب أكتوبر عندما أوفد السادات إسماعيل فهمى حتى قبل أن يعين رسميا وزيرا للخارجية إلى واشنطن لمقابلة الرئيس الأمريكى نكسون وكان لقاءً استثنائيا لترحيب نكسون بالموقف المصرى الجديد، وتجلى ذلك عندما انتهى اللقاء يوم 31 أكتوبر 1973 بخروج الرئيس الأمريكى مصاحبا إسماعيل فهمى حتى باب سيارته... كان هذا المشهد فى حد ذاته دالا على ترحيب الطرفين ببدء مرحلة جديدة.... وفى السنوات الأربع فيما بين هذا اللقاء فى آخر أكتوبر 73 حتى مجيء الرئيس كارتر فى يناير 77 كان القوة المحركة فى الدبلوماسية الأمريكية هو هنرى كيسنجر وزير الخارجية حيث سرعان ما غرق نيسكون فى فضيحة ووترجيت واستقال عام 74 وجاء بعده رئيس ضعيف هو جيرالد فورد وكانت سياسة كيسنجر بالنسبة للأزمة قائمة على أسلوب الخطوة خطوة، والابتعاد عن محاولة الحل الشامل الذى لم تكن لتقبل به إسرائيل حيث تقوم سياستها منذ نشاتها على التفاوض مع كل دولة عربية على حدة... وبتنفيذ سياسة الخطوة خطوة أمكن التوصل إلى اتفاقيتى الفصل بين القوات دون التعرض لقضية الحل الشامل. جاء الرئيس كارتر للحكم فى يناير 1977 مقتنعاً وراغباً فى إيجاد حل لأزمة الشرق الأوسط وكان لقاؤه الأول مع الرئيس السادات فى 4 إبريل 1977 ... ومنذ اللحظة الأولة أصبح الرجلان صديقين، ويقول كارتر فى مذكراته "وفجأة يوم 4 إبريل 77 كان هناك ضوء سماوى ظهر فى الأفق بالنسبة لى: لقد عقدت أول لقاء مع الرئيس أنور السادات.. وهو الرجل الذى سيغير التاريخ والذى سأظل معجباً به أكثر من أى قائد آخر". والواقع أن كارتر بدأ فور تنصيبه رئيساً فى الاهتمام بموضوع الشرق الأوسط وبادر بارسال وزير خارجيته سيروس فانس إلى المنطقة وكانت مصر أول عاصمة عربية يزورها. وكانت العقبة الأساسية أمام عقد مؤتمر جنيف هى تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية والتى لم تكن إسرائيل لتوافق عليه وطوال الفترة ما بين يناير 1977، وزيارة السادات للقدس فى نوفمبر من نفس العام كانت هناك دبلوماسية نشيطة ومتسارعة ومشروعات تقدم من الأطراف المختلفة دون التوصل إلى اتفاق نهائى لعقد مؤتمر جنيف. وطوال هذه الفترة بدأ الخلاف يأخذ طريقه ببطء بين الرئيس السادات ووزير خارجيته إسماعيل فهمي، فقد كان السادات فى عجلة من أمره ولا يريد قيداً على حركته وكان مستعدا لقبول حل منفرد إذا استمرت العقبات من جانب إسرائيل والعرب ليعقد مؤتمر جنيف وأرسل مبعوثه حسن التهامى لمقابلة وزير خارجية إسرائيل فى المغرب سرا، وكان إسماعيل فهمى يعمل على حشد العالم العربى إلى جانب مصر، وكان الاتحاد السوفيتى يريد أن يكون له دور رئيسى فى حل الأزمة بينما لم يكن السادات يثق بالسوفيت ويرى دورهم معوقاً... فى نفس الوقت كان الموقف الإسرائيلى بدوره كارهاً أصلاً لفكرة مؤتمر جنيف، ولم يكن الرئيس كارتر رغم رغبته الأكيدة فى التوصل إلى حل قادراً على حسم كل المشاكل والتناقضات بين الأطراف المختلفة، ومن هنا جاءت رسالته السرية المكتوبة بخط اليد التى بعث إلى الرئيس السادات فى أكتوبر 1977 وأرسلها كرسالة مغلقة ومختومة بالخاتم الرئاسى وحملها سكرتير أول السفارة المصرية بواشنطن محمد إسماعيل وهو السفير محمد إسماعيل الآن أبن المشير أحمد إسماعيل وحملها شخصياً للرئيس السادات، والتى أوضح فيها كارتر أنه أصبح غير قادر على حل المشاكل وأنه يطلب مساعدة الرئيس السادات. وقد قال الرئيس السادات فى العديد من خطبه أن تلك الرسالة هى التى أقنعته بضرورة أن يأخذ تلك الخطوة الكبيرة بزيارة القدس وإن كنت شخصياً أعتقد أن السادات لم يكن أصلاً يريد أن ينعقد مؤتمر جنيف ولا أن يكون هناك وفد عربى موحد سيواجه فيه عقبات تثيرها كل من سوريا والمنظمة وذلك فى تقديره على الأقل فكان قراره بزيارة القدس. وكان ذلك هو ما دعى إسماعيل فهمى للاستقالة من منصبه كوزير للخارجية وتبعه محمد رياض وزير الدولة للشئون الخارجية كما استقال محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية الجديد أثناء مؤتمر كامب دافيد فى سبتمبر 78. وكان ذلك هو الطريق إلى حل منفرد رأى إسماعيل فهمى أنه سيطلق يد إسرائيل فى المنطقة ويؤدى إلى تمزق العرب واضعافهم فى مواجهة إسرائيل ويشجعها على العربدة فى المنطقة. انتهى مؤتمر كامب ديفيد فى سبتمبر 1978 إلى اتفاق إطار لحل المشكلة بين مصر وإسرائيل واتفاق آخر حول حل لقضية الضفة الغربيةوغزة وهو حل لم يقبل به الفلسطينيون وعقد الاجتماع بين الجانبين المصرى والإسرائيلى مع وجود الجانب الأمريكى والذى انتهى إلى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى بلير هاوس بواشنطن وتم توقيع المعاهدة يوم 26 مارس 1979 واستردت مصر أرضها وآبار البترول وتم تدمير المستوطنات بما فى ذلك تدمير مدينة يا ميث.. ثم استردت مصر آخر شبر من الأرض باسترداد طابا. ولكن فى المقابل انعزلت مصر عن الدول العربية لمدة عشر سنوات على الاقل واغتيل الرئيس السادات بعد توقيع المعاهدة بعامين. وأصبحت إسرائيل قوة نووية. وتفرق العرب وأصبحوا بلا قيادة قادرة وهى التى كانت تمثلها مصر. وها نحن اليوم فى لحظة فارقة أخرى علينا فيها أن لا سبيل لمصر سوى بناء نظام ديموقراطى وأن كثيرا مما حدث من نكبات فى الحقبة الماضية كان أساسا راجعا لغياب نظام ديموقراطى سليم يضع حداً لحكم الفرد ويبنى المؤسسات التى تحافظ على الأمن القومى وكفى ما فات من نكبات... ويا ليتنا ندرس تاريخ الحقب الماضية بإمعان وتجرد لنأخذ منها العبر ونبنى ما يأمل فيه شعبنا من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية.