قاد اليسار الصهيوني إسرائيل منذ أول انتخابات تشريعية أجريت في يناير عام1949 وحتي منتصف العقد السابع من القرن العشرين, ثم انتقلت القيادة إلي اليمين ممثلا في تكتل الليكود الذي شكل الحكومة عقب انتخابات1977, وأعقب ذلك مرحلة تقاسم فيها الحزبان الكبيران في إسرائيل الحكومة, ثم بدأت بينهما لعبة كراسي موسيقية حيث كان الليكود برئاسة إسحاق شامير علي رأس الحكومة في بداية تسعينيات القرن العشرين وقاد مفاوضات مؤتمر مدريد, وفي عام1992 فاز العمل برئاسة رابين, وفي عام1996 عاد الليكود بقيادة نيتانياهو, ثم عاد العمل مرة أخري بقيادة باراك عام1999 قبل أن يطيح به شارون في فبراير2001 واستمر في السلطة إلي أن شكل تكتل كاديما وسقط في الغيبوبة, خلفه أولمرت ثم ليفني, فعاد الليكود مجددا في انتخابات2009 وشكل حكومة يمينية من أحزاب اليمين العلماني والديني. وهنا نسجل ملاحظتين, الأولي أن هناك خصوصية للتعريفات في إسرائيل, فمعايير التمييز بين اليمين واليسار في إسرائيل تختلف عن مثيلتها المتعارف عليها في العلوم السياسية, ففي إسرائيل يجري التمييز بين اليمين واليسار علي أساس الموقف من قضيتين, الأولي هي علاقة الدين بالدولة ووفقها يبدأ اليسار من نقطة رفض هيمنة الديني علي المدني ويصل في اقصاه إلي نفي أي دور للدين في تسيير الدولة, أما اليمين فيتراوح من إفساح مجال للدين في الحياة المدنية إلي الدعوة لإقامة دولة دينية تسير وفق الشريعة اليهودية, والقضية الثانية تتمثل في الموقف من الأراضي العربية التي احتلت في يونيو1967 وحسب المقولات النظرية لليسار واليمين هناك فان اليسار بصفة عامة كان يوافق علي تسوية سياسية وإن اختلف حول الشكل النهائي للصيغة التي تكون عليها هذه الأراضي, دولة مستقلة أم حكم ذاتي أم صيغة من صيغ الاتحاد مع الأردن, أما اليمين فيؤكد فكرة أرض إسرائيل الكبري, وأنه بين نهر الأردن والبحر المتوسط لاتوجد سوي دولة واحدة هي إسرائيل التي أقيمت علي أرض الأجداد, أرض الوعد الإلهي, أما غير اليهود الموجودين علي هذه الأرض, فيمكن منحهم نوعا من الحكم الذاتي الذي يكون للبشر دون الأرض. وعلي الرغم من أن جميع الحروب الكبري بين إسرائيل والعرب خاضتها حكومات يقودها تكتل يساري(1973,1956,1948 حرب2006 علي لبنان عدوان2009/2008 علي غزة), وأن أول اتفاقية سلام بين إسرائيل ودولة عربية مع مصر1979 وقعتها حكومة ليكودية, ونفذتها بالكامل وانسحبت من كامل الأراضي المصرية إلا أن الاتجاه السائد في مصر والعالم العربي يري أن السلام مع إسرائيل سوف يأتي مع حكومة يسارية, لذلك احتفوا بقدوم باراك علي رأس حزب العمل في انتخابات1999, فقاد مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي انتهت بالفشل ثم السماح لشارون بزيارة ساحة المسجد الأقصي, فكانت الانتفاضة(28 سبتمبر2000) التي اعادت إسرائيل خلالها احتلال ما سبق أن انسحبت منه من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تبدلت الأوضاع داخل اليمين واليسار في إسرائيل, فلم يعد اليمين علي إطلاقه رافضا لفكرة الانسحاب من أراض فلسطينية في الضفة الغربية, ولا عاد مستمسكا برفض مسمي الدولة علي الكيان الذي سينشئه الفلسطينيون في الضفة وغزة, كما لم يعد اليسار متميزا في تبني فكرة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية, كما اختلطت الأوضاع كثيرا فاليسار الذي كان يتراوح ما بين حزب العمل إلي كتلة ميرتس, تراجع كثيرا وحدث الاختلاط بفئات من اليمين غادرت مع شارون تكتل الليكود وشكلت معه حزب كاديما, فهذا التكتل الذي فاز في انتخابات2006 ليس تكتلا يساريا بل إنه يضم بعض غلاة اليمين أمثال شاؤول موفاز, كما أن هذا التكتل هو الذي قاد الحرب علي لبنان في صيف2006 وهو الذي ارتكب جرائم حرب وجرائم بحق الانسانية في العدوان علي غزة في ديسمبر2008 ويناير2009. إذا لا نستطيع أن نصنف كاديما علي أنه حزب يساري, بقدر ما يصنف علي أنه يمين وسط بعد أن اتجه تكتل الليكود أكثر ناحية اليمين, أما حزب العمل فقد تراجع كثيرا وفارق الكثير من الافكار التي كان يحملها باعتباره حزبا يساريا, حزب العمل تحت قيادة ايهود باراك بات أقرب إلي اليمين منه إلي اليسار, وهي تحولات منطقية نتيجة التحولات التي يمر بها المجتمع الاسرائيلي وجعلته يتجه نحو اليمين وبقوة, وهو أمر يتوقع استمراره في السنوات القادمة التي سوف تشهد تراجعا لليسار وفق المعني المتعارف عليه, وعندها سيجري التعامل مع يمين الوسط باعتباره يسارا. ثمة تحولات تجري في المجتمع الإسرائيلي تقود إلي تراجع وربما تحلل اليسار الإسرائيلي كقوة سياسية كبيرة, ربما يبقي بعدها قوة هامشية, وربما لا يبقي منه سوي ذكريات إنشاء الدولة وخوض الحروب مع العرب ومن بين أبرز المؤشرات علي ذلك تراجع دور الكيبوتس والموشاف اللذين كانا ولا يزالان يمثلان أهم مصادر دعم اليسار الإسرائيلي وحزب العمل تحديدا, ومن ثم فإن تراجعهما يعني خصما من القاعدة الانتخابية لهذا المعسكر يأتي بعد ذلك تصاعد ثقل أحزاب اليهود الروس وأبرز مؤشراتها تقدم حزب إسرائيل بيتنا بقيادة أفيجدور ليبرمان في انتخابات الكنيست الثامنة عشرة فبراير2009 إلي المرتبة الثالثة بعد كاديما والليكود حيث تخطي حزب العمل الذي تراجع إلي المرتبة الرابعة, فقد حصل( إسرائيل بيتنا) في هذه الانتخابات علي نحو395 ألف صوت منحته خمسة عشر مقعدا, وأخيرا يأتي تزايد قوة ونفوذ الأحزاب الدينية التي حصلت في انتخابات الكنيست الثامنة عشر إلي23 مقعدا, كان نصيب شاس منها أحد عشر مقعدا, ويهوديت هاتوراه خمسة مقاعد والبيت اليهودي ثلاثة مقاعد وأربعة مقاعد ضمن الاتحاد القومي. وفق هذا التصور يمكن القول ان السنوات القادمة سوف تشهد تراجعا كبيرا لليسارا الإسرائيلي لحساب قوي سياسية يمينية, وأخري تمثل يمين الوسط كاديما, اليمين ممثلا في الليكود والقوي التي تقع علي يمينه من يمين علماني( إسرائيل بيتنا) ويمين ديني( الاتحاد القومي وشاس), أما اليسار ممثلا في حزب العمل فلم يعد يسارا بالمعني المتعارف عليه, كما انه تراجع إلي المرتبة الرابعة بعد أن كان الحزب الأول دون منافس في الفترة من1949 إلي1977, ويتوقع أن يشهد مزيدا من التراجع بعد أن تحول ناحية اليمين, فدخل منطقة يمين الوسط التي, لها من يعبر عنها في الساحة الحزبية الإسرائيلية, ويمثلها حاليا كاديما, والأخير يتعرض لحملة مخططة من جانب اليمين الليكود تحديدا للنيل من قوته عبر دعوة سبعة نواب كنيست للخروج وتشكيل قائمة جديدة ثم الانضمام إلي الليكود في مرحلة تالية, سبعة نواب هو الحد الأدني لطلب تأسيس كتلة جديدة في البرلمان, والدعوة تصادف هوي لدي أكثر من سبعة من أعضاء الليكود في الكنيست, فما أكثر نواب الليكود داخل كاديما. ويبدو مهما قراءة هذه التغيرات, ومن ثم تعديل الرؤية العربية التي لاتزال في انتظار اليسار كي يستأنف المفاوضات ويصل إلي اتفاقات سلام, فاليسار لم يعد يسارا, وقراءة المؤشرات القادمة من المجتمع الإسرائيلي تقول انه في سبيله إلي التحلل ليبقي مجرد ذكري لأصحابه, كما أن الحقوق تستعاد, تنتزع.. ولا تقدم عن طيب خاطر, وآن الأوان كي يصحح العرب نظرتهم ولا ينتظروا كثيرا انتظار اليسار لم يعد قائما.