تكشف محاولة استقراء مشهد الساحة السياسية الإسرائيلية عن مجموعة من التطورات التي تقود في اتجاه هيمنة اليمين بشقيه الديني والعلماني. وكان اليمين قد بدأ في معاودة الصعود مع تغيير في تركيبته من يمين صهيوني مدني, أي غير ديني شكل المعارضة لليسار الصهيوني الذي قاد إسرائيل منذ أول انتخابات عام1949 حتي منتصف العقد السابع من القرن العشرين إلي يمين متطرف يتشكل من موجات الهجرة التي وفدت من الاتحاد السوفيتي السابق, اضافة إلي احزاب اليمين الديني باطيافه المختلفة, تشير مجمل هذه التطورات إلي أن اليمين الإسرائيلي يواصل الصعود, مع تراجع تدريجي لليسار الإسرائيلي التقليدي لحساب قوي محسوبة علي يمين الوسط أكثر من كونها تشغل يسار الساحة السياسية الإسرائيلية. لايبني هذا التحليل علي نتائج الانتخابات في الفترة الأخيرة فقط ولا علي نتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلي تقدم اليمين الإسرائيلي, بل يستند بالاساس إلي قراءة موضوعية لتراجع مصادر قوة اليسار الإسرائيلي عامة مقابل تقدم مصادر قوة اليمين الإسرائيلي باطيافه المختلفة. يمكن القول ان خريطة القوي السياسية الإسرائيلية قد بدأت تشهد بعض التغييرات منذ منتصف العقد السابع وتحديدا بعد حرب أكتوبر1973 التي تجسدت بداية في صعود تكتل الليكود إلي السلطة للمرة الأولي عام1977. وقد استمرت عملية التغيير بفعل العديد من الاحداث الداخلية والانعكاسات المقبلة من تفاعلات اقليمية وفي مقدمة هذه الاحداث والتفاعلات تراجع الثقل التاريخي لبعض التشكيلات والتكوينات والتنظيمات التي كانت تمثل رصيدا سياسيا للاحزاب القائمة الكيبوتس والموشاف مثلا والغزو الإسرائيلي للبنان عام1982 ثم الانتفاضة الفلسطينية التي تفجرت في ديسمبر1987, وتزايد النشاط السياسي لعرب1948 وتشكيل احزاب سياسية عربية خالصة وايضا حرب الخليج الثانية1991 ثم عملية التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيي التي انطلقت من مؤتمر مدريد في أكتوبر1991 وتوقيع اتفاق أوسلو1993.. الخ, وفي نفس السياق ايضا تفكك الاتحاد السوفيتي وتدفق موجات ضخمة من المهاجرين اليهود إلي إسرائيل. قادت هذه التطورات إلي تغيير جوهري في خريطة القوي السياسية الإسرائيلية, فبدأت بعض القوي السياسية التقليدية في التراجع لمصلحة القوة السياسية لتكتلات وتجمعات أخري, كما دفعت في الوقت نفسه بعناصر عرقية إلي تنظيم صفوفها وتشكيل قوي سياسية تعبر عن مصالحها مثل يهود الشرق, واليهود الروس ايضا تغيرت موازين القوة بين الاحزاب والاتجاهات السياسية المختلفة فنشطت الاحزاب الدينية وحصلت علي المزيد من القوة في النظام السياسي, الأمر الذي وسع من دورها في كل أوجه الحياة هناك وأثار في الوقت نفسه قوي أخري تقاوم هيمنة الديني علي المدني. تراجع دور الكيبوتس والموشاف المعروف أن هذين التنظيمين كانا ولايزالان يمثلان أهم مصادر دعم اليسار الإسرائيلي وحزب العمل تحديدا ومن ثم فإن تراجعهما يعني خصما من القاعدة الانتخابية لهذا المعسكر. والمعروف أن ظهور الكيبوتس علي أرض فلسطين بدأ مع الموجة الثالثة للهجرة اليهودية1919 1923 التي حملت معها قرابة35 ألف مهاجر من شرق أوروبا. وكان أغلب هؤلاء المهاجرين قبل هجرتهم إلي فلسطين أعضاء في منظمات الطلائع ومدربين علي المهن اليدوية وخصوصا الزراعة وكان أغلبهم من أبناء الطبقة العاملة التي تتبني أو تتأثر بالفكر الاشتراكي ومع هجرتهم إلي فلسطين, أقاموا نوعا جديدا من المستوطنات الكيبوتس وهي عبارة عن مزرعة جماعية تتميز بملكية مشتركة لجميع أدوات الإنتاج وايضا الموشاف وهي قرية تعاونية تمتلك كل أسرة فيها مساحة من الأرض وتتعاون العائلات في وسائل الإنتاج الأخري وعملية التسويق. وقد ساعدت نشأة الكيبوتس والموشاف ونمط الحياة فيهما علي تشكيل قيادات سياسية تتمتع بدرجة عالية من الكفاءة كما كانت بمثابة قاعدة انتخابية لمعسكر اليسار وبرغم تراجع النمو في حركة الكيبوتس والموشاف منذ منتصف الخمسينيات إلا أن دورهما في مساندة الجيش الإسرائيلي والقيام ببعض المهام الأمنية لاسيما بعد حرب يونيو1967 قد أعاد الحيوية لهذه الحركة ود فع الحكومة إلي انشاء المصانع فيها. وبمرور الوقت بدأت حركة الكيبوتس والموشاف في التراجع للعديد من الأسباب من بينها اتجاه الاجيال الجديدة التي ولدت داخلها إلي الثورة علي حياة الكيبوتس والموشاف خاصة ما يتعلق بتقديس العمل اليدوي والزراعة علي وجه الخصوص. وجاءت سياسة التحرير الاقتصادي لتدخل الكيبوتس والموشاف في أزمة جديدة, وبرغم ذلك لاتزال لهذه التنظيمات أدوار تلعبها لاسيما كمستودع لجيش الدفاع الإسرائيلي الذي يري أن هذه التنظيمات تدرس كيف تشجع شبابها علي تفكير المقاتلين. عموما يبدو واضحا أنه في الوقت الذي تتراجع فيه الكيبوتس والموشاف لاعتبارات اقتصادية واجتماعية فان الاعتبارات الأمنية تدفع في اتجاه الحفاظ عليها ودعمها وفي جميع الأحوال فان تراجع ثقل هذه التنظيمات يمثل خصما من الرصيد السياسي والانتخابي لمعسكر اليسار الإسرائيلي. تصاعد ثقل أحزاب اليهود الروس علي الرغم من أن الروس شكلوا جزءا رئيسيا من الموجات الأولي للهجرة اليهودية إلي فلسطين وكان من بينهم من تولي مقاليد القيادة السياسية والعسكرية في الدولة العبرية بعد اعلانها فإنه لم يكن هناك حزب سياسي خاصا بهم فقد انتشروا في الاحزاب القائمة وحققوا كأفراد مكانة متقدمة في كل مؤسسات الدولة العبرية ومع تدفق موجات الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي السابق في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين بدأ اليهود الروس في تنظيم أنفسهم سياسيا لاسيما بعد حملات التشكيك والعداء التي تعرض لها المهاجرون الجدد منهم علي ايدي الاحزاب الدينية وبمرور الوقت تزايد عدد اليهود السوفيت في إسرائيل فقد هاجر خلال الفترة من1990 2000 نحو800 ألف شخص. وقد جاء هؤلاء المهاجرون في وقت كانت الاحزاب الدينية تسيطر علي الجوانب الدينية وتتحكم في توجيه المخصصات الاجتماعية وتمسك بخيوط وزارتي الاديان والداخلية, الأمر الذي جعل اليهود الروس يتعرضون مباشرة لاضطهاد هذه الاحزاب التي بدأت حملاتها ضدهم بالتشكيك في يهوديتهم وتضييق الخناق عليهم واستبعادهم من اهتمام القائم علي شئون المنظمات الاجتماعية.