فاجأ إيهود باراك رئيس حزب العمل الإسرائيلي الساحة الإسرائيلية في السابع عشر من الشهر الجاري بالاستقالة من الحزب وتشكيل حزب جديد, وعلي الرغم من انها ليست المرة الأولي التي يستقيل فيها رئيس حزب العمل, أو ينشق فيها أحد أعضاء الحزب مكونا كيانا جديدا, إلا أن انسحاب باراك من حزب العمل وتكوين حزب جديد باسم الاستقلال هو الأهم من جهة تأثيره علي وضع مستقبل الحزب المأزوم أساسا منذ رحيل إسحاق رابين قبل خمسة عشر عاما. فخلال تلك الفترة لم يستطع الحزب الذي هيمن علي الساحة السياسية في إسرائيل منذ نشأتها من الوصول إلي تشكيل الحكومة عبر الانتخابات إلا مرة واحدة بقيادة إيهود باراك في عام1999 ولمدة عامين فقط, وبعدها تراجع حضور الحزب ومعه اليسار الإسرائيلي بشكل لافت في الشارع الإسرائيلي وفي الخريطة الحزبية وفي الكنيست, إذ وصل تمثيل الحزب إلي13 مقعدا فقط, وبدأ الحديث يتصاعد عن موت حزب العمل ومعه اليسار الاسرائيلي وحمل بعض الإسرائيليين المسئولية عن ذلك الوضع لبارك نفسه نتيجة تشبثه بالسلطة وإقحام حزب العمل في حكومات شارون اليمينية, فباراك علي حد تعبير الكاتب الاسرائيلي جدعون ليفي هو الذي أعدم اليسار عام2000, وهو الذي دفنه عام2009 بعد الانتخابات الاسرائيلية التي أتت بنيتانياهو, وها هو اليوم يكتب شهادة وفاة الحزب ويدق المسمار الاخير في نعشه في مقابل وعد من نيتانياهو بإبقائه وزيرا للدفاع قبل أن يترك رئاسة الحزب مرغما ومن ثم كرسي الوزارة. تختلف استقالة باراك عن الاستقالة السابقة التي قدمها رئيس الحزب عميرام متسناع في منتصف عام2003, فاستقالة متسناع جاءت علي خلفية هزيمة الحزب في انتخابات مارس من العام نفسه وعلي خلفية الكثير من الضغوط التي تعرض لها متسناع في رئاسة الحزب, ولم يسع لتشكيل حزب جديد من عباءة حزب العمل. كما ان استقالة باراك تختلف عن انشقاق يوسي بيلين في منتصف عام2003 أيضا لتأسيس حركة شاحر أو الفجر إذ سعي بيلين لتدعيم موقف اليسار عموما, فاندمج مع حركة ميرتس اليسارية في مارس عام2004 ليشكلا حزب ياحد وبرغم أن انشقاق بيلين واستقالة متسناع قد هزا صورة حزب العمل أمام الرأي العام الاسرائيلي الذي انجرف بعيدا عن اليسار وحزب العمل خلال السنوات العشر الأخيرة, فإن انشقاق باراك بدا مثيرا للسخرية من جانب الإسرائيليين, فباراك الذي ارتبط اسمه بالفشل السياسي في مقابل قادة اليمين ليس له من الشعبية التي تبرر سعيه لاقامة حزب جديد في الساحة الإسرائيلية علي نحو ما فعل شارون في عام2005 حين استقال من رئاسة حزب الليكود ليشكل حزب كاديما ويخوض به الانتخابات فشارون انذاك كان من الشعبية والقوة التي بررت له فعلته وكان له ما أراد, إذ فاز حزبه الوليد بالانتخابات وشكل الحكومة, فحزب العمل حاليا ليس حزب الليكود في عام2005 ليتحمل صدمة بحجم استقالة رئيسه, ولا باراك في قوة وشعبية شارون ليغير الخريطة الحزبية في إسرائيل, ومن ثم يبدو الأمر وكأن باراك يحاول استنساخ تجربة شارون مقامرا بمستقبل حزبه دون أية ضمانات حقيقية للاستمرار سواء في الحكومة أو في الشارع الإسرائيلي وتأكيدا لذلك يشير استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجري عقب إعلان باراك استقالته من حزب العمل الي أن ثلثي الإسرائيليين(68%) يرونها خطورة سلبية, بينما14% فقط منهم يصدقون تبريرات باراك, كما تشير النتائج إلي أن حزب باراك الجديد في حال أجريت انتخابات في إسرائيل اليوم سيحصل علي3 مقاعد بينما لديه الآن خمسة مقاعد, أما حزب العمل فسيحصل علي ستة مقاعد, أما حزب الليكود فيرفع عدد مقاعده الي30 مقعدا وحزب إسرائيل بيتنا سيحوز17 مقعدا. ومن المؤكد أن انفراط عقد الحكومة الإسرائيلية الحالية سيكون بمثابة شهادة وفاة لباراك في الساحة السياسية الإسرائيلية, بتعبير آخر فان خطوة باراك بالانسحاب من حزب العمل ستعطيه أشهرا اضافية في الحكومة لن تكون كافية لتدعيم موقفه أمام الرأي العام الاسرائيلي. فالحكومة الاسرائيلية التي أصبحت تتمتع بشبكة أمان ضعيفة نسبيا وان كانت متسقة إلي حد بعيد(66 مقعدا في الكنيست) ربما تريح نيتانياهو نسبيا من مطالبات حزب العمل وتهديده بالانسحاب من الحكومة, وهو التهديد الذي كان يتبناه باراك قبل أسبوعين من استقالته من الحزب, ولكنها من ناحية أخري لن تصمد طويلا أمام ابتزاز الأحزاب المشاركة فيها الذي ستتزايد وطأته علي نيتانياهو في المرحلة المقبلة خاصة من قبل حركة شاس التي تمتلك11 مقعدا بالكنيست وتجيد عملية ابتزاز رؤساء الحكومات في مثل تلك الحالات. ومن هنا تأتي خطورة ما قام به باراك علي عملية التسوية السلمية والعلاقة مع الفلسطينيين فباراك الذي كان قبل أيام يري ضرورة أن ينسحب حزب العمل من الحكومة لانها تعرقل التقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين, وأن سياسة نيتانياهو تجلب ضررا كبيرا علي إسرائيل في ظل تمكن الفلسطينيين من سحب الشرعية عن إسرائيل وعزلها دوليا والتقدم في مسألة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية وان الامر قد يقود الأممالمتحدة في شهر سبتمبر المقبل لاتخاذ قرار الاعتراف بدولة فلسطين علي حدود1967 وعاصمتها القدس, بل إنه اتهم نيتانياهو بالتردد والخوف من المبادرة للخروج من الأزمة التي تواجه إسرائيل, هو نفسه باراك الذي يبرر خطوته بانجرار حزب العمل إلي اليسار, وهو بارك الذي يتحالف مع نيتانياهو ويمنع عنه انهيار الحكومة. ومع أن حزب العمل لم يتمكن عبر ما يقرب من عامين من إدخال تغيير يعتد به علي سياسة نيتانياهو إزاء عملية التسوية, فان انهيار الحزب وخروجه من الحكومة سيدفع نيتانياهو أكثر باتجاه اليمين خاصة المتطرف منه, ولن يصبح بمقدوره مستقبلا. حتي لو أراد أن يتخذ قرارات تصب في صالح عملية التسوية, إذ لن يصبح لديه ما يقدمه من مبررات لشركائه اليمينيين لخطوات باتجاه التسوية. بتعبير اخر, كان نيتانياهو قبل انسحاب حزب العمل يستطيع ان يقنع شركاءه في الائتلاف بأن ما يقوم به من أجل التسوية هو بدافع تجنب انسحاب حزب العمل ومن ثم انهيار الحكومة. وأخيرا فربما تكون استقالة باراك من حزب العمل ضربة معلم سياسيا كما يشير بعض المراقبين الاسرائيليين, ولكن المعلم هنا لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون باراك, بل إن نيتانياهو المستفيد الأول سواء لجهة اطالة عمر حكومته ولو عبر مناورات سياسية وصفتها تسيبي ليفني بانها دنيئة, أو لجهة اطلاق رصاصة الرحمة علي حزب العمل وتيار اليسار, ومن ثم تدعيم حظوظ اليمين في الانتخابات الاسرائيلية القادمة التي ربما تعقد قبل نهاية هذا العام, وساعتها لن يكون هناك مكان لباراك أو حزب العمل, واذا كانت تسيبي ليفني تدعو حاليا لاجراء تلك الانتخابات فان نيتانياهو لن يستمر طويلا قبل أن يضطر للدعوة لتلك الانتخابات باعتبارها مخرجا من أزمة سياسية وحكومية اندلعت شراراتها الأولي بقرار باراك الاستقالة من حزب العمل والبقاء في الحكومة.