الفكرة هي المحرك الأساسي لتصرفات الإنسان، فإذا امتلأ عقله بفكرة ناضجة وعلوية ومنيرة، فإن سعيه وسلوكه وحركة حياته تفيض بالنور والبصيرة والبناء والإحياء، وتكون تلك الفكرة بمنزلة بذرة غرست في أرض طيبة، فإنها تثمر شجرة وارفة، لها في حياة الإنسان ظلال ضافية، وتثمر التصرفات الحميدة، والأخلاق الرفيعة، والمبادئ القويمة، والسلوكيات العالية اللائقة، فأثر الأفكار في الإنسان أثر خطير وعميق، لا يستهان به، بل يمكن لنا أن نقول إن الإنسان فكرة، فإذا كانت الفكرة منيرة وواسعة كان الإنسان كذلك، وإذا كانت الفكرة مظلمة، ومندفعة، ومفعمة بالهوج والشطط والتحامل فإن الإنسان يكون كذلك أيضا، ومن هنا تبرز مسئولية المنافذ القائمة بصناعة الأفكار وتشكيلها، ويتضح لنا مدى الحساسية الفائقة للمنابر المعرفية، والشرايين التي تجري فيها الأفكار إلى الإنسان، فهذه مسئولية مركبة، تتضافر على صناعتها عدة مؤسسات، تعليمية وفكرية وثقافية واجتماعية، وإذا لاحظنا في مجتمع من المجتمعات أنه آمن ومستقر، وتتمكن فئاته وأطيافه من التناغم والتعايش الآمن، فإن منافذ صناعة الفكر فيه تكون قائمة بوظيفتها، وتكون منتجة ومثمرة، وعلى العكس من ذلك، فإن المجتمعات التي انحدرت إلى الصراع والتصادم تكون قد اجتازت شوطا بعيدا في توليد الفكر المنغلق، المفعم بالتسلط على الآخر، والاستعلاء عليه، وتكون المؤسسات الحارسة للفكر فيه قد ترهلت، وتراجع أداؤها، أو تحول إلى أداء شكلي غير منتج ولا صناع للإنسان على الحقيقة، بالإضافة أيضا إلى أن الفكر المنهجي الصحيح له نسب علمي موصول، تتوارثه الأجيال، وتعتني به المدارس العلمية الرصينة، وأقصد به مفاتيح الفهم، التي تعين الإنسان على إدراك الواقع، وعلى فهم الشرع الشريف، وعلى اتساع الصدر مع المخالف، وتجعل الإنسان نبيلا، رفيع الخلق، منصرفا إلى إكرام الإنسان، والعجيب أن هذا الفكر عبر التاريخ ينتج حضارة، وعلوما، ورحمة، وهداية، ويصنع إنسانا صاحب إنجاز، تستفيض على يده العلوم والمعارف، وفي المقابل فإن هناك موجات تاريخية من الفكر المتسلط، الذي يتصور صاحبه أن الكون كله يدور حول ذاته هو، وأنه المحتكر للحق، وأن الناس من حوله لا نصيب لهم فيه، ومن العجيب أيضا أن هذا الفكر عبر تاريخه قد أنتج الدماء والصراع، وأغلق على صاحبه منافذ الفهم والفكر، فلم يعد قابلا للتواصل أو التفاهم، وأنا أرى أن هذا النمط من الموجات الفكرية المتطرفة المتكررة عبر التاريخ في دورات تاريخية لا تنقطع، تترعرع وتنمو في أوقات التراجع والفقر، وعند غياب المشروعات القومية الحضارية، وعند تراجع منظومة القيم الرحمانية، التي تغرس في الإنسان الإحسان، والتواصل مع الأكوان، ومحبة العمران، فالقضية كلها ترجع في نظري إلى اختلال منظومة القيم المعرفية والنفسية الحاكمة لأي فكر، والتي تمثل قيودا تحميه من الانفلات والتطرف والجموح والتعدي، وتوفر له كل إمكانيات التحليل السليم، وإدراك المقاصد العليا، وحفظ القواسم المشتركة بينه وبين بقية فئات المجتمع، وتعينه على إدراك الحد الفاصل بين حقه في الفكر والنشاط والانطلاق، وبين الحد الذي يتحول فيه إلى التسلط والعدوان، ومصادرة حق غيره في الحياة والفهم والتصرف، وأرى أننا مطالبون بنشر تلك القيم الحاكمة لأي منظومة فكرية، والتي هي السقف الذي يحمي الفكر، ويبقيه موصولا بمصادر تجديده وانضباطه وإنسانيته، ويساعده على النظر الدائم إلى البوصلة التي تبصره بطريقه، وتحذره عندما يتعدى الحدود الآمنة، وأهم معالم القيم الحاكمة لأي فكر هي: الإنصاف من النفس، الكف عن المكابرة والعناد، توطين النفس على دوام نقد الذات ومراجعتها، حفظ التوازن بيني وبين المنظومات الفكرية المجاورة لي، والمحيطة بي، وجود سقف لا يمكن تخطيه، ويساعدني على إدراك اللحظة التي أراجع فيها مدى انضباط فكرتي بمقاصدها، شدة الانضباط والالتزام بمعيار الصدق، الذي هو قيمة مجردة، وغير نسبية، ولا يجوز تأويلها، وتجعلني أقر في داخلي بما لي وما علي، الإبقاء والحفاظ على العقول الحكيمة التي تتخذ في منظومتي الفكرية موقف الناقد، القائم بالمراجعة المستمر، والتحري الدائم لمدى انضباط الأداء والنشاط مع المقاصد العليا، بعد مرحلة التدقيق والاطمئنان إلى صحة تلك المقاصد في ذاتها، فهذه مجموعة من القيم الحاكمة، التي إذا وجدت في أي منظومة فكرية، فإنها كفيلة بتحقيق استقرارها، وانضباط أدائها، وإلا فإنها تقع دون شك في التطور العشوائي، الذي تفقد فيه البصيرة، وتتحول إلى الهدم، ونسأل الله تعالى أن ينير بصائرنا جميعا. لمزيد من مقالات د شوقى علام