إذا تحركت القلوب بشهود جلال الله تعالى، واستمدت من العبادات الصادقة المتوهجة شعاعاً يومياً متجدداً، وحصل تراكمٌ وارتقاءٌ فى توفير وتهيئة عوامل الحضور فى العبادة، بحيث تتزايد على الدوام أجواء القرب من الغيب، حتى كأن الإنسان يطالع الغيوب من ستر رقيق، فيشتد يقينه، وتنجلى بصيرته، ويفهم عن الله تعالى مراده، وتصير الآخرة حاضرة دائماً فى منظومة تفكيره وتصرفاته وحركة حياته، إذا تهيأ ذلك كله فإنه يَسْرِى إلى العقل بالتدريج فهمٌ رفيعٌ وعميقٌ لوظيفة الإنسان على ظهر الأرض، وأن من أجلّ وظائفه العمران، والعمران لا يتحقق إلا بعلوم تتطور، ونشاط كبير فى رعاية البحث العلمى، وبناء العقول، واكتشاف المواهب، وتحريك الهمم، ولو مع قلة الإمكانيات، وضيق ذات اليد، لكن يشيع فى المجتمع جوٌّ محفز لذلك، وتتوفر الدواعى والبواعث الحاضنة للإبداع، والتى ترفع من قيمة العلم والفكر فى نفوس الأجيال الناشئة، وتجعل همم الأطفال والشباب وآمالهم تطمح إلى العلم، وترى مقدار شرفه وقيمته فى المجتمع، وترى مقدار حفاوة الإعلام والمجتمع وأجهزة الدولة للعلم والتفكير والإبداع، وتتولد فى النفوس الميول لتحصيل الكمالات العقلية، والسعى إلى المعارف والقراءة الواسعة، وتتسارع حركة اكتشاف المواهب، وصناعة العقول، وإذا سُقِيَ ذلك كله باستحضار جلال الله وخشيته، وحضور أثر العبادة والارتباط بالغيب، وشدة اليقين فيه، فإن الحركة العلمية يصير لها مذاق آخر، لأن العلم حينئذ يبحث عن أسرار الكون، ويكتشف سننه وقوانينه، ويتوسع فى دوائر العلوم، التطبيقية، والإنسانية، والعقلية، على نحو يوصّل إلى الله تعالى فى كل ذلك، فإذا بالعلم قد رُوِيَ بالذكر والفكر، وشاعت فيه أنوار المعرفة بالله، وامتلأ بالقيم الأخلاقية الرفيعة، ويتولد منه تطوير الحرف والمهن والصنائع، وبناء المؤسسات، وتعظيم قيمة الإنسان، والسعى فى تحقيق رخائه ورفاهيته وكرامته، وتحقيق سعادة الدارين، الدنيا والآخرة، وحينئذ تزداد العبادة توهجاً فى نظر الإنسان، ويزداد امتنانه الباطنى لتلك الفرائض والموارد التى زادت معرفته بالله، وصححت سيره إليه، إن العبادة والفرائض والسنن، كما لا تنفك عن الأخلاق، ولا تنفك عن انفتاح البصيرة على الغيب حتى يصير شديد الحضور، فإنها كذلك لا تنفك عن العمران، ولا تنفك عن العلوم، والمعارف، والآداب، وأسرار الصنائع والحرف، بل تدفع الإنسان دفعاً إلى الغوص على أسرار الكون وقوانينه، والشغف بفهم السنن الإلهية فى تسيير النفس البشرية، وحركة المجتمع، وأنظمة الإدارة، وبناء المدارس العلمية، والمراكز البحثية، وتطوير وتعميق منظومة الأخلاق فى المجتمع، على مستوى التعامل الفردى بين الأفراد، وعلى مستوى التعامل الاجتماعى، الذى ينظم أخلاقيات حركة البحث العلمى، وينظم تعامل المؤسسات، وينزع من أنماط الإدارة روح الكراهية والضغط على آراء الآخرين، ومنهجية تفكيرهم وبحثهم، والإنسان فى كل ذلك موصول بالله تعالى، عميق التوقير والاحترام لشعائره، شديد الإجلال لعظمته، يتحرى سننه وفرائضه، وينتظم العقل والفكر على هديه، ويتولد النشاط الاجتماعى والعلمى والفكرى الساعى إلى مرضاته، المظهر لمحاسن شرعه، المستلهم لقيم النبوة ومواريثها، (وللحديث بقية).