من أهم ثمرات العبادة الصادقة العميقة المتوهجة على الإطلاق أنها تصنع الإنسان الواسع الأفق، الذى يستخرج من الوحيين الشريفين ما هو كامن فيهما من العلوم، والآداب، والفنون، والقِيَمِ، والنُّظُم، والتشريع، والإعجاز، وأصول الاجتماع الإنسانى، وبناء النفس البشرية وتزكيتها، وعمارة الأرض، وحقوق الأكوان، وعلاقات الأمم، إلى غير ذلك من المقاصد القرآنية الراقية، فيتم بهذا كله صناعة الإنسان النبيل، الذى يشيد الحضارة، ويعمر الأرض، كل ذلك مع كمال المعرفة بالله تعالى وتوقيره، فإذا بالإنسان قد بدأ طريقه وسيره إلى الله تعالى بالتعبد الصادق، المستلهم لمراد الله، العميق الارتباط به، ثم لم يزل يرتقى فى معارج الفهم عن الله، ويزداد قلبه ارتواءً بمعانى الجلال، حتى يتسع الفهم والعقل بالتدريج لكيفية استخراج كنوز المعانى من الوحيين، فإذا بالإنسان ينساب مع آفاق القرآن، ويلتقط من القرآن إشاراته إلى أصول العلوم والآداب والمعارف، ثم ينهض للبحث والفكر، ويبنى المؤسسات والمراكز البحثية، فيستفيض العلم وينتشر، ويزداد شغفاً بالمعرفة والتنقيب عن سنن الله التى هى القوانين العليا للكون، ويرى كيف أن كل جملة من القرآن تتربع على قمة هرم من المقدمات والإجراءات والمسالك والعلوم والبحوث، التى إذا ما نفذناها واستكشفنا أبعادها فإن النتيجة القرآنية تتحقق، وباختصار أقول: إن العبادة الصادقة تخلع على العقل خِلْعَة الفهم، المُعِين للإنسان على تحويل آيات القرآن إلى برامج عمل، ولما أن كانت العبادات والفرائض والسنن والآداب النبوية معارج عليا، تنفتح بها عين البصيرة على جلال المعاملة مع الله، وينطبع بها الباطن على القرب من الغيب، ويستشرف لفهم سنن الله تعالى فى تدبير شئون عباده، فإن تلك العبادات تصير بذلك هى المدخل الواسع الموصل إلى انفتاح خزائن معانى القرآن، والتغلغل إلى بحار علومه، فكأن العبادات تجلو البصيرة، حتى يزول الحجاب الكثيف الكائن بين الإنسان وبين الغيب، أو يَرِقُّ الحجاب ويَلْطُف حتى يصير شفافاً، بمقدار ما يزداد الإنسان قرباً من الغيب فى عباداته، فإذا قرأ الإنسان القرآن فى تلك الأحوال الشريفة صار كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، قال الإمام ابن جُزَيٍّ فى: (التسهيل لعلوم التنزيل): «وكان على بن أبى طالب -رضى الله عنه- يثنى على تفسير ابن عباس، ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق»، فهذا هو سيدنا عبدالله ابن عباس رضى الله عنه، قد تجمعت له أمور وشروط، جعلته نافذ البصيرة، واسع الأفق، موصولاً بالغيب، يفهم عن الله، ويتعبد إليه بما يزيد البصيرة جلاء ونورانية، فإذا به يقرأ القرآن فيفهم لمحاته وإشاراته، ويستخرج منه كنوز المعانى، ودقائق المعارف، حتى عبر سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه عن فهم ابن عباس وتفسيره للقرآن بذلك التعبير الرشيق الفائق: «كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق»، ونحن نريد القيام بالعبادات على نحو ومسلك يقربنا -قدر الوسع- من أن نطل على الغيب من ستر رقيق، ونسأل الله تعالى التوفيق. (وللحديث بقية)