إذا أردت للعبادات والفرائض أن تتحول إلى مِضَخَّةِ أنوار، تتدفق منها معانى الارتباط الصادق الوهاج بالحق سبحانه، وتصير معراجاً روحانياً موصولاً بينك وبين قيوم الأرض والسماء، تطل من خلاله على الغيب، فلا بد لها من قلب رقيق، تم إعداده، وتمت تنقيته من شوائبه، وفق منهج ومسلك وبناء معين، يتحول فيه إلى أرض خصبةٍ، قابلة للغرس والحرث والإنبات، ومثال ذلك الأرض، إذا كانت مليئة بالأحجار، والأعشاب والحشائش الضارة، تتناثر فيها قطع الصخور، فإنها لا تنبت، إلا إذا ما تم حرثها، وإزالة الركام والصخور منها، واقتلاع ما انتشر فيها من الأعشاب، وحرثها وتقليبها، وتعريضها للشمس فترة، وإمدادها بالمخصبات، فإذا بها قد صارت أرضاً نقية خصبة، قابلة للإنبات، وكذلك القلوب، ينهمر عليها كل يوم سيل من الأسماء والأشخاص والقضايا، والارتباطات والمواعيد، والمشكلات، والانطباعات النفسية، من محبة وكراهية، وأنوار وظلمات، ونيات صالحة، تخالطها نزغات الشر والحقد والحسد وما أشبهها، مع الأطماع والأهواء، مع شدة الانهماك فى تسيير حركة المعيشة، حتى تنشأ فى القلب بالتدريج أعراف وعادات باطنية مريضة، تشبه الصخور والأحجار التى تقع فى الأرض فتجعلها غير قابلة للإنبات، ثم يدخل الإنسان فى أثناء ذلك كله إلى الصلاة، فيصليها صلاة جافة متعجلة، من أطراف القلب واللسان، والآلات والتروس التى تصنع القرارات فى الباطن تهدر وتضج بالمواعيد والارتباطات والميول والمعانى النفسية المعتملة المتداخلة المشتبكة، فلا تمس الصلاة قلباً، ولا توقظ نفساً، ولا تتغلغل إلى باطن، ولا تسرى من خلالها معانى القدسية والشفافية الناشئة من حسن الإقبال على الملأ الأعلى، حتى إذا ما ألقى تلك الفريضة إلقاء، خرج منها متعجلاً، لينغمس فى حركة الحياة الهادرة، وهو يتساءل: «أين ثمرة الصلاة؟»، فصار الوسط المحيط بنا فى نمط الحياة وسطاً صارفاً عن العمق الباطنى، المحرك لما فى الباطن من قيم وآداب ومعانٍ، وصار الحضور مع الله تعالى، باهتاً، جافاً، لا يخطر للإنسان على بالٍ إلا من وراء حجب وأستار، فلا بد من العودة إلى برنامج يومى متكرر، ينمى فى القلب معانى إجلال الغيب، ويعمق فى الباطن معانى جلال الله تعالى وعظمته، ويغمر القلب بأنوار من إدراك مراد الله تعالى، والفهم عنه، والسعى فى تحويل وحيه الشريف إلى برامج عمل، ومناهج تطبيق، تصنع الحضارة، والذى يشير إلى ذلك كله قول الله تعالى: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنِّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (الحج: 32)، فأشار سبحانه إلى أن تقوى القلوب هى الوسط الذى ينمو فيه تعظيم الشعائر، وتعظيم الشعائر معناه امتلاء الباطن إجلالاً للعبادة، وتوقيراً لها، وإدراك موضعها الشريف، من حيث هى إقبال بالمخاطبة والمناجاة على رب العالمين، وأنها لمحة شريفة وصافية من الزمن، يخرج فيها الإنسان من حدود زمانه ومكانه، ويتحرر من قيوده، ليتوجه إلى خالق الزمان والمكان، وصاحب الملك والعظمة والسلطان، وليجدد عهده بالخالق الأعظم، الذى بيده نواصى العباد، وقلوب الخلائق، وتدبير شئون الممالك، وبيده الخلق والإيجاد والإمداد والإسعاد، (وللحديث بقية).