ثمة حقيقة إنسانية عميقة فى الوجود البشرى، ألا وهى الفقر أو الحاجة! فالإنسان فى هذه الدنيا، لا يتخلص -أبدا- من أسر احتياجاته العديدة، سواء كانت حاجته ضرورية لاستمرار الحياة، أو كان شبقه لإشباع شهوات حسية ونفسية، أو كان تلهفه لتحقيق رغبات معنوية كثيرة للعلو فى الأرض! ومن هنا كان الرق، هو قدر الإنسان ونصيبه فى هذا الوجود! وإما أن يعرف الإنسان قدره، ويلزم عبوديته لخالقه فيرتاح قلبه وتهدأ نفسه وتتحرر روحه، أو أن يغفل عن حقيقته، وينطلق على غير هدى وراء حاجاته الكثيرة، التى لا تنتهى أبدا. فالإنسان إما أن يكون عبدا لله، وإما أن يكون عبدا لهواه! إذ العبودية حقيقته، ولا يزيلها عتق! وكل من تذلل وافتقر لغير الله تعالى، واعتمد عليه، وسكن فى كل أمره إليه فهو عابد وثن. ولكى تتحقق العبودية الحقيقية من خلال العبادات الشرعية، على العبد أن ينقل الأمر من مجرد أفعال محسوسة خارجية، إلى حقائق عميقة باطنية، وهذه هى معانى العبادات وأسرارها. فما من حكم من أحكام فرائض الشريعة وسننها، إلا وله فى الباطن حكم أو أزيد، على قدر ما يُفتح للعبد من ذلك. فماذا تفعل العبادات فى الإنسان؟ العبادات تطهر الإنسان وتزكيه، حتى لا يبقى منه شىء سوى تلك النفخة الإلهية التى أوجدته. وسر كثرة المناسك وتنوعها، هو الرغبة فى التزكية، فإن لم يتطهر العبد من خلال عبادة، قد تشف روحه فى غيرها. وأول ما تتطلبه العبادات، هو الطهارة، وإذا كان الماء يستخدم لطهارة الأبدان، فإن العلم هو المطهر للقلوب. فالأمر لا يقف عند طهارة الظاهر، بل يمتد إلى طهارة الباطن فى كل عبادة، لأن الحق سبحانه لا ينظر من الإنسان إلا إلى قلبه، فعلى العبد أن يطهر قلبه بشكل دائم، لأنه محل نظر الله عز وجل. فإذا كانت الطهارة لإزالة الأدناس، ففى القلوب كل ما سوى الله دنس. وقبل أداء العبادات لا بد من النية. فهى روح العمل وحياته. والنية أو الإخلاص لله تعالى، عمل من أعمال الباطن، لو لم تكن، ما كانت عبادة. فما ثمة عبادة إلا بتصحيح النية، كما لا بد من رفع الغفلة، والحضور الدائم عند أداء الفرائض. فقد قال عز وجل «ومن عظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب». (الحج: 32). وما عظّم سبحانه شعائره سدى، لأنه ما عظم إلا ما يقبل التعظيم. وقد قال أبو اليزيد البسطامى «العابد هو الذى يرى منة الله تعالى عليه فى العبادات أكثر من العبادة حتى تغرق عبادته فى المنة». وشرف الإنسان فى عبوديته، لأن العبادة هى سبب وجوده، «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون». (الذاريات: 56). ومن خلال الممارسة الصحيحة للعبادات، يمكن للعابد أن يلتحم مع هذا الكون الفسيح الحامد لخالقه. أما الإنسان غير العابد، فهو كائن ضئيل جدا منفصل عن الكون، بل كائن ضائع، ومطرود من التناغم الكونى المحيط به.