للعبادات مقاصد وثمرات وغايات، لا بد من التفتيش عنها، والتنقيب عليها، ومراقبة مدى تحققها وحصولها عند القيام بالعبادة، لأن العبادات بأنواعها المختلفة تشبه بذورا، لا بد لها من أن تنبت وتورق وتنمو، حتى تصبح شجرة وارفة، تؤتى ثمارا، ونحن يصيبنا القلق على زروعنا إذا تأخر ثمرها، وتلك المقاصد والثمرات هى التى تبنى الإنسان النبيل الراقى، الذى يعرف الله تعالى ويحبه، ويبنى الحضارة، ويعمر الأرض. وقد شرع الله تعالى العبادات لمقصدين كبيرين، وهما: التعبد، والتخلق؛ أما التعبد فمعناه: التزام المكلف الإتيان بهذه العبادات فى مواقيتها، وبكيفياتها وهيئاتها المشروعة، والمواظبة على ذلك، تعبدا وتقربا إلى الله رب العالمين، وقياما بأمره الجليل، جل شأنه، ولا ينصرف عنها لعدم خشوعه فيها، بل يواظب عليها، ثم يعالج النفس حتى تتحصل على الخشوع والتدبر. وينبغى أن يقوم المكلف بذلك المقصد، بالتوازى مع المقصد الثانى، الذى هو التخلق، والتخلق معناه القيام بالمضمون التربوى الأخلاقى الكامن فى العبادة، فلا بد من إيقاع العبادة على نحو مخصوص، وبنمطٍ معينٍ من المعايشة والفهم، واستلهام المرامى والمقاصد، مما يؤدى إلى تحقيق ذلك المضمون التربوى، وإلى سريان المعانى القدسية، والآداب العليا إلى سلوك الإنسان، لشدة فهمه عن الله، ولشدة إدراكه مقاصد العبادة، وأنها لها حرم يحيط بها، من الآداب الرفيعة، فلا يصح أن تقع فى الأداء البشرى جرداء، معزولة عن السياق العام من التصرف الإنسانى، بل لا بد من تطويع السلوك العام لقيمها وآدابها وأسرارها. والذى يقع الآن أن يَخْتَزِلَ الناسُ مقاصد العبادة فى التعبد فقط، ويغيب عنهم المضمون التربوى الأخلاقى تماما، فتراهم يصلون ويصومون، ويقومون بسائر الفرائض، ثم ترى مع ذلك نمط السلوك الاجتماعى عندهم فى غاية العدوانية والتحامل والظلم، والبعد عن قيم الشرع الشريف، مع أن الله تعالى قال: {اتل ما أوحى إليك من كتاب ربك وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]، فربط سبحانه الصلاة بمضمونٍ تربوى أخلاقى، يفضى بالإنسان إلى معايشة العبادات على نحوٍ راقٍ من الفهم عن الله، والقيام بواجب الإجلال والخشية والتوقير، تنحسر به عن النفس المطامع والأهواء، وتذوب به رعونات النفس وشهواتها، ويُفِيقُ به الإنسان من الغفلة، حتى تكون الصلاة بابا من المعارج الروحية، التى يرى فيها العبد جلال مقام الربوبية، فإذا بالصلاة قد حجزت الإنسان عن المعاصى والظلم والمكر والشحناء والبغضاء وما أشبه. وقل مثل ذلك فى الصيام، وكيف أن الشرع الشريف ربطه بالسلوك الاجتماعى، فقال صلى الله عليه وسلم: «وإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إنى امرؤ صائم»، رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، فأبان هنا عن مقصدين جليلين للصوم؛ أولهما: التعبد المحض، والثانى: أن يأتى به المكلف على نحو يحقق مضمونه التربوى الأخلاقى، ويرشد به السلوك، حتى يكون للتعبد أثر، ولا يكون كالرجل المريضِ الأشلّ، العاجز عن القيام بأثر ونتيجة. وقل مثل ذلك فى الحج والزكاة وسائر العبادات، حتى ترجع العبادة فى ذهن المسلم وسلوكه منبعا للخلق، الذى هو شعار هذه الملة السمحة. وللحديث بقية.