بعد عقدين من التخطيط والبناء والتأجيل، وميزانية تجاوزت المليار دولار، تفتح القاهرة أبواب أضخم متحف أثري في العالم، في توقيت بالغ الدقة، تتقاطع فيه الثقافة مع السياسة، والتراث مع الدبلوماسية، والهوية مع القوة الناعمة. أهمية المتحف المصري الكبير لا تكمن في حجم المعروضات أو فخامة التصميم، بل في دلالته الجيوسياسية، كأداة لإعادة تعريف مكانة مصر على الخريطة العالمية؛ فبينما تندفع بعض الدول إلى استنساخ الماضي أو شراء رموزه من الخارج، تختار مصر أن تستعيد تاريخها بأيديها، وأن تحوله إلى مصدر دخل وتأثير معًا. منذ سنوات، تتعامل القاهرة مع المتحف بوصفه مشروعًا استراتيجيًا أكثر منه صرحًا ثقافيًا؛ فالموقع ليس مصادفة، والتوقيت ليس عفويًا؛ فأن تفتتح مصر متحفها الأكبر في ظل عالم مرتبك، وأزمات شرق أوسطية لا تهدأ، يعني أنها تطرح سرديتها الخاصة عن الحضارة، وتقدم نفسها للعالم كقوة استقرار تمتلك ما لا يمتلكه أحد هى باختصار "ذاكرة الإنسان". في لغة الاقتصاد، المتحف هو استثمار طويل الأجل في السياحة المستدامة، إذ تتوقع وزارة السياحة أن يدفع المتحف بالقطاع لزيادة عدد الزوار إلى أكثر من 30 مليون سنويًا خلال 5 سنوات، وأن يضيف ما يقرب من 2 مليار دولار سنويًا للناتج المحلي، ما يجعله أحد أعمدة "اقتصاد الثقافة" الجديد الذي تراهن عليه مصر. لكنه في لغة السياسة أعمق من ذلك؛ فهو رسالة إلى الداخل والخارج بأن الدولة قادرة على تنفيذ مشروع حضاري ضخم رغم الضغوط الاقتصادية والإقليمية، وأنها تراهن على القوة الناعمة بوصفها طريقًا موازيًا للقوة الصلبة. يأتي الافتتاح وسط اهتمام عالمي غير مسبوق؛ عشرات الوفود الرسمية برئاسة قادة دول من أوروبا وآسيا وإفريقيا، وممثلو كبريات المؤسسات الثقافية، في مشهدٍ لا يعكس فقط الإعجاب بالحضارة المصرية، بل الاعتراف بدور القاهرة في صياغة مفهوم جديد للتراث العالمي، حيث يصبح الماضي أداة للتفاهم بين الشعوب، لا ميدانًا للتنافس بينها. دبلوماسية الآثار التي انتهجتها مصر خلال العقد الأخير لم تكن رفاهية ثقافية بل سياسة دولة بين استرداد آلاف القطع المنهوبة من الخارج، وتوقيع اتفاقيات تعاون مع عشرات الدول، وإطلاق برامج تدريب لأثريين أفارقة، كلها عناصر أعادت لمصر صوتها الأخلاقي في ملف التراث الدولي. ومع أن المتحف يعيد تقديم التاريخ الفرعوني، فإنه يتجاوز فكرة "الفراعنة فقط"، ليعرض تاريخ مصر ككلٍّ متكامل من عصورها القديمة إلى القبطية والإسلامية والحديثة، في سردية واحدة.. إنها المرة الأولى التي يتم فيها دمج كل هذه المراحل في سياق واحد لا يقوم على التقسيم، بل على الاستمرار، في محاولة واعية لتفكيك فكرة "القطيعة الزمنية" التي علقت طويلاً في الوعي الغربي عن مصر. محليًا، يمثل الافتتاح رهانًا على الوعي الجمعي؛ فالمتحف يعيد ربط الأجيال الجديدة بتاريخها عبر رؤية الأطفال المصريين لآثار بلادهم في عرض تفاعلي متكامل، هو بحد ذاتها عملية "تربية حضارية" تمتد إلى المستقبل. عقول استراتيجية وراء هذا الإنجاز العظيم؛ أبرزها د. أحمد غنيم، الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف الذي اعتبره نموذجًا للقيادة الثقافية الحديثة في مصر، يجمع بين الخبرة الاقتصادية والرؤية الحضارية، على يديه تحول متحف الحضارة في الفسطاط من حلم معلق إلى كيان مؤسسي متكامل، والآن يسطر قصة نجاح جديدة إلى جوار الأهرامات الثلاثة. المتحف الكبير وثيقة تراثية تحمل خطاب دولي متكامل عن هوية مصر يتضمن رسالة حضارية للعالم أن القاهرة ثابتة في مركز التاريخ، لا تسعى لمكان على الخريطة، بل تصنع الخريطة ذاتها.