يمثل افتتاح المتحف المصري الكبير في الأول من نوفمبر حدثًا حضاريًا وثقافيًا فارقًا في التاريخ المعاصر للدولة المصرية، فهو صرح أثري ضخم هو الأكبر في العالم المخصص لحضارة واحدة، ومشروعًا وطنيًا متكاملًا يوضح رؤية مصر الجديدة لدور الثقافة والتراث في بناء الوعي الجمعي وتعزيز المكانة الرمزية والسياسية والاقتصادية للدولة، ويعد هذا الافتتاح ميلاد فضاء معرفي وإنساني يتيح إعادة قراءة التاريخ المصري القديم وفق منهجية علمية حديثة، تجمع بين الدقة الأكاديمية والخيال الإبداعي، والحس الجمالي والتقني، بما يمكن الأجيال الجديدة من التفاعل الواعي مع تراثهم واستلهام قيمه لبناء المستقبل، كما يعيد المتحف المصري الكبير توظيف الماضي في عيش الحاضر واستشراف المستقبل، حيث يتحول التراث من ذاكرة ساكنة إلى قوة فاعلة في بناء الهوية الوطنية، وأداة لإعادة تعريف الذات المصرية في زمن العولمة والتنافس الثقافي. وارتبطت مصر عبر تاريخها الطويل بفكرة المتحف بوصفه ذاكرة جمعية تحفظ الوعي وتضمن استمرارية الهوية الحضارية، فمنذ القرن التاسع عشر، ومع تأسيس متحف بولاق في عهد الخديوي إسماعيل، ثم انتقال الآثار إلى المتحف المصري بالتحرير عام 1902، وصولًا إلى مشروع المتحف المصري الكبير، ظلت الدولة المصرية تدرك أن الوعي بالتاريخ شرطًا من شروط بناء المستقبل، ولقد تزامن ذلك مع تزايد المكتشفات الأثرية، واتساع نطاق الدراسات المتخصصة في علم المصريات، وتنامي الاهتمام العالمي بفهم الحضارة المصرية القديمة، مما جعل الحاجة ملحة إلى إنشاء نموذج متحفي جديد قادر على استيعاب هذا الإرث الضخم وعرضه بأساليب حديثة تتجاوز فكرة العرض التقليدي. ويأتي المتحف المصري الكبير كمنظومة معرفية متكاملة تعيد تعريف وظيفة المتحف ذاته، كمركز بحث علمي يتيح دراسة وفهم التراث من خلال أحدث التقنيات والأدوات التحليلية، وبيئة تعليمية وتربوية تسهم في ترسيخ الوعي لدى الأجيال الجديدة، وربطهم بعمق هويتهم الثقافية، ومنصة للتواصل الثقافي الدولي تعزز الحوار بين الحضارات، وتبني الجسور بين الشعوب، ومنح مساحة تفاعلية للدهشة والاكتشاف والانبهار وتسمح للزائر بأن يشارك في التجربة، وبذلك يتحول من مكان لحفظ الآثار إلى مجال ديناميكي ينشئ علاقة وعي جديدة بين الإنسان وتاريخه. ويمثل تصميم المتحف المصري الكبير رؤية معمارية تجمع بين الحداثة وروح المكان التاريخي؛ فاختيار موقعه على هضبة الجيزة في مواجهة الأهرامات يعد خيارًا جماليًا وهندسيًا وعودة لاستحضار المشهد الكوني الذي صاغته مصر القديمة، حيث يعتمد التصميم على التدرج البصري الذي يبدأ من لحظة الدخول، مرورًا بالمسار المؤدي إلى قاعة الملك توت عنخ آمون، وصولًا إلى الواجهة الكبرى المطلة على الأهرامات، وهذا التدرج يصمم حركة جسدية موازية لحركة الوعي والتأمل، فيمنح الزائر إحساسًا بأن الحضارة المصرية تكتشف وتفهم تدريجيًا عبر مسار معرفي متسلسل يقرب الدهشة من الإدراك، كما أن اعتماد الضوء الطبيعي والمساحات الداخلية الرحبة يعكس رؤية فلسفية ترى في الآثار كائنات زمانية تحمل ذاكرة التاريخ، وتستعيد حضورها وصوتها عبر الفضاء الذي تعرض فيه، فتبوح بحكايتها للزائر، لتنتقل رواية الحضارة للعالم. وقد أصبح عرض الآثار اليوم يقوم على علم المتاحف باعتباره منهجًا يقرأ القطعة الأثرية كنص تاريخي وثقافي متكامل، يحمل دلالات حضارية تتجاوز قيمتها المادية، ومن ثم يقدم المتحف المصري الكبير سردًا معرفيًا متدرجًا لمسار الحضارة المصرية، يبدأ من نشأة الدولة ومراحل تطورها السياسية والدينية والاجتماعية، وصولًا إلى منظومات الفن والعلوم والحياة اليومية، ويمنح هذا العرض للزائر القدرة على إدراك الحضارة المصرية في سياقها التاريخي والفكري والفلسفي بعيدًا عن الأساطير الساذجة أو الانبهار الجمالي المنفصل عن الفهم المعرفي، وتتجلي هنا أهمية قاعة الملك توت عنخ آمون، التي تعرض مقتنياتها كاملة للمرة الأولى، ككنز أثري فريد، ومرآة لمرحلة انتقالية في تاريخ الدولة الحديثة تكشف التحولات في البنية الروحية والسياسية للمجتمع المصري القديم، وتعيد قراءة هذا العصر من منظور علمي وجمالي. ويعد المتحف المصري الكبير أحد أهم أدوات القوة الناعمة المصرية، وعنصرًا محوريًا في الدبلوماسية الثقافية للدولة، فالمتحف يقدم تاريخ مصر أمام المصريين والعالم كدعوة مفتوحة لحوار حضاري يتجاوز الحدود السياسية والجغرافية، وتؤكد مصر من خلال هذا الفضاء الثقافي، أن قيمتها تكمن في تاريخها الطويل، وفي قدرتها على تحويل هذا التاريخ إلى مصدر للمعرفة والإلهام، وإلى مساهمة مستمرة في المسار الإنساني العام، ومن ثم يعزز المتحف صورة مصر كدولة استقرار وإبداع وإرث ثقافي وحضاري فاعل مستدام. ويمثل المتحف المصري الكبير ركيزة محورية في استراتيجية تنشيط السياحة الثقافية في مصر، والتي تعد من أهم موارد الدخل الوطني، حيث يسهم في إعادة تطوير منطقة الأهرامات وتحويلها إلى مركز حضاري متكامل يجمع بين السياحة والبحث العلمي والتعليم، ومن المتوقع أن يشكل المتحف نقطة جذب استثمارية كبرى في مجالات الضيافة، والخدمات السياحية، والصناعات الثقافية والإبداعية، بما في ذلك تصميم وإنتاج الهدايا التذكارية ذات الهوية المصرية الأصيلة، كما يتيح فرصًا واسعة لتعزيز الشراكات الدولية في مجالات الترميم والحفظ الرقمي وتطوير الدراسات والبحوث الأثرية، الأمر الذي يرسخ مكانة مصر كمرجع عالمي وقيادة علمية في مجال المصريات، ويضعها في قلب الخريطة المعرفية الدولية التي تهتم بتاريخ الإنسان وذاكرة الحضارة. ونؤكد أن افتتاح المتحف المصري الكبير يمثل إعلانًا واضحًا عن دخول مصر مرحلة جديدة من الوعي بذاتها وبحضارتها وبمكانتها في العالم، ويذكرنا بأن قيمة الأمم تقدر بما تمتلكه من قوة وثروة بشرية ومادية، وما تحوزه من ذاكرة وقدرة على الإبداع وإحياء الإرث الحضاري، وإذا كانت الحضارة المصرية القديمة قد علمت الإنسانية مبادئ الكتابة والبناء والتفكير وفلسفة العلاقة بين الإنسان والكون، فإن المتحف المصري الكبير يعيد للحضارة المصرية صوتها وحضورها الفاعل في الوعي الجمعي، بوصفه مشروعًا يستحضر الذاكرة ويتجه نحو المستقبل، يستند إلى هوية راسخة وجذور حضارية، ليمنح التاريخ قدرة جديدة على الحياة، كطاقة متجددة تسهم في تشكيل الوجدان وبناء الوعي وإلهام الأجيال، فالمتحف المصري الكبير هو سردية وطن ونبض حضارة تستيقظ لتخاطب وتبهر العالم. ___ أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر