هناك لحظة استثنائية فى تاريخ الحضارة الإسلامية بل وفى تاريخ الإنسانية بوجه عام وهى بيت الحكمة الذى أُنشأه الخليفة المأمون فى العصر العباسي، هذا الحاكم المستنير الذى جمع المترجمين وأجزل لهم العطاء، كى ينقلوا إلي العربية علوم الفرس و اليونان و الهنود و السريان...وترمز هذه اللحظة فى الحقيقة إلى الانفتاح على ثقافات الآخرين والاعتراف بفضلهم، كما ترمز كذلك إلى الوعى بأن ازدهار الدول لا يعتمد على السلاح وحده، بل يعتمد بالأساس على المعرفة. حدث ذلك منذ أكثر من ألف عام... ألا تعكس هذه اللحظة البعيدة معها أمورا كثيرة؟ ألا تدل وتثبت لنا أن الترجمة تكمن خلفها سياسات واستراتيجيات ترعاها الدولة وتتبناها؟ تجلى ذلك واضحا، حينما قرر حاكم مصر محمد على السير فى طريق الحداثة،فكوّن رفاعة الطهطاوى وزملاؤه كوكبة أطلقت مسار الترجمة فى عصرنا الحديث. والأمم كى تتقدم، ينبغى أن تكون على وعى باللحظة التاريخية التى تعيش فيها، وما يدور حولها من أفكار ومشكلات وتطلعات، وتشكل الترجمة هنا مدخلا لكل ذلك.. فكل مجال من مجالات المعرفة والعلم والفن فى ثقافة معينة،كى يتطور يحتاج فى الحقيقة الى الترجمة.. ومما لاشك فيه، أن ترجمة الأدب العالمي، قد أسهمت بشكل كبير فى تطور أدبنا العربى الحديث، والأمر نفسه فى مجالات التاريخ والفلسفة والاجتماع.. ولأن المعرفة حق أساسى من حقوق الإنسان، ولا يستطيع فرد أن يلم بلغات كثيرة، يظل من حقه أن يطلع على آداب و معارف لا يتقن لغتها الأصلية.. ومن هنا تتجلى قيمة الترجمة.. ونحن، فى ظروفنا الحالية، أحوج ما نكون الى تدعيم معرفتنا بالعالم الذى نعيش فيه، وندرك جيدا أن الترجمة تسهم إسهاما أساسيا فى محاولاتنا لحل مشكلاتنا ورسم طريقنا إلى المستقبل، وبالتالى فإن اهتمام الدولة بالترجمة ودعمها ليس ترفا بل هو ضرورة حيوية..