تعيش بريطانيا، منذ 16 شهرا بالتحديد، فى حالة تأهب لمواجهة عمل إرهابى محتمل. فحسب التصنيف الأمنى المبنى على معلومات أجهزة الأمن والاستخبارات والشرطة، تواجه البلاد منذ 22 أكتوبر 2012 احتمالات قوية بوقوع هجوم إرهابى دون تحذير مسبق. وبسبب هذا التقدير الاستخباراتي، بلغ مستوى الاستعداد الأمنى مستوى «الخطر الجوهري». ومع ذلك، فرغم أن كلمة »الإرهاب«، التى تجذب الاهتمام عادة ، تملأ الصحف الشعبية، الرخيصة واسعة الانتشار، والرصينة ومواقع الأخبار ومحطات التليفزيون والراديو، فإن الناس لايشعرون بأن بريطانيا فى معركة مع الإرهاب. لكن الدولة فى حرب ضروس مع الإرهاب الذى يصنفه جهاز الاستخبارات الداخلى (إم آى 5) كأكبر تهديد للأمن القومى البريطانى حاليا. وعدم شعور الناس بالحرب هو، فيما يبدو، دليل نجاح استراتيجيات المواجهة. تقوم هذه الاستراتيجية على قاعدتين أساسيتين هما الاستجابة التشريعية السريعة والكفاءة الاستخباراتية والأمنية. وخلال ال 14 عاما الأخيرة، سن البرلمان 10 قوانين لمكافحة إرهاب الجماعات الدينية وغير الدينية، بما فيه الجماعات المسلحة فى إيرلندا الشمالية التى تحذر السلطات من أنها لا تزال خطرة على الأمن. ويلاحظ فى هذه القوانين، التى تصدر بمعدل قانون جديد كل عام وأربعة أشهر تقريبا، أنها لم تعط أجهزة الأمن سلطات استثنائية أيا يكن الظرف الاستثنائى والغضب الشعبى اللذان يفرضان سن هذه القوانين. وأوضح مثال هو قانون مكافحة الإرهاب لعام 2006 . فقد سعت الحكومة لسن القانون بعد تفجيرات 7/7 الشهيرة فى لندن، التى وصفت بأنها النسخة البريطانية من اعتداءات سبتمبر فى الولاياتالمتحدة عام 2001. وفى هذه التفجيرات قتل 56 مدنيا بينهم 4 انتحاريون، وأصيب 700 آخرون. وعمً الغضب الشعبى وبدا للحكومة أن وراءها تأييدا شعبيا يمكنها من تشديد القوانين حتى لو بدت متعارضة مع حقوق الإنسان. وطلبت من البرلمان تمديد فترة حبس المشتبه بهم دون توجيه اتهام رسمى أو إحالة إلى القضاء من 28 يوما إلى 90 يوما. لكن مشروع القانون الحكومى هُزم فى البرلمان الذى جعل الحد الأقصى لفترة الاحتجاز 28 يوما لايجوز تجديدها، بعدها إما أن تقدم الشرطة أدلة مقنعة تكفى للإحالة للقضاء أو تفرج عن المشتبه به أيا تكن الجريمة المحتملة. بل إنه فى قانون الطب الشرعى والعدالة، الذى ينتاول الجرائم الإرهابية، تم تخفيض مدة احتجاز أى شخص إلى 14 يوما فقط لا يجوز تمديدها. ولا تزال أجهزة الأمن تعتبر هذا النص القانونى معوقا لها فى جهود مكافحة الإرهاب، لكنها تظل ملتزمة به، ربما يأتى ظرفا مواتيا لتغييره. وبعد ست سنوات بالضبط، وقعت أحداث الشغب الصادمة فى إنجلترا بما فيها العاصمة لندن. واستغل البلطجية وعصابات الإجرام مقتل شاب برصاص الشرطة فى ظرف غامض. وحٌرقت المتاجر وسيارات الشرطة وشاهد البريطانيون صورا مفزعة للفوضى والتحريق. ورغم الغضب الشعبى والرسمى الجارف، رفضت وزارة الداخلية حتى استخدام خراطيم المياه فى مواجهة الفوضويين. وأقصى ما فعلته الحكومة هو فرض حظر تجول فى بعض المناطق. وبدلا من إعطاء الشرطة وأجهزة الأمن والاستخبارات سلطات فوق القانون، سٌمح للمحاكم بالعمل فترات ليلية للبت فى الوضع القانونى للمشتبه بهم، واستُدعى البرلمان من الإجازة. ومع ذلك تعرض رئيس الوزراء ديفيد كاميرون لانتقادات حادة من جانب جماعات حقوق الإنسان لأن الشرطة، بعد مداولات قانونية، سمحت بنشر الصور التى التقطتها كاميرات المراقبة للبلطجية وهم ينهبون المتاجر ويعتدون على الناس ويخلون بالنظام العام. ورد كاميرون أمام البرلمان قائلا أى قلق مٌتصنع على حقوق الإنسان فيما يتعلق بنشر هذه الصور لن يقف فى طريق جلب هؤلاء المجرمين إلى العدالة. وطوال الأزمة، التى رٌوع فيها الناس، أطلع كاميرون البريطانيين باستمرار على أعداد المقبوض عليهم ولم يخل أى تصريح له ووزيرة الداخلية من تأكيد الالتزام بحكم القانون. ولم يكن يجرؤ أن يقول، كما رٌوج خارج بريطانيا، إنه عندما يتعلق الأمر بالأمن القومى، لا حديث عن حقوق الإنسان. بل قال للعالم، بعد اجتماع لمجلس الأزمات: لأكن واضحا نحن نفخر، فى هذه البلاد، بالدفاع عن حقوق الإنسان فى الداخل والخارج. إن هذا جزء من التقليد البريطاني. أجهزة الاستخبارات والأمن ليست استثناء من القانون رغم اتفاق الجميع على خطورة الإرهاب. فالبرلمان يناقش الآن مشروع قانون جديدا، أٌعليت فيه قيمة العدالة، باسم »العدالة والأمن. وهدفه، كما تقول الحكومة، هو جعل أجهزة الاستخبارات والأمن والحكومة خاضعة بدرجة أكبر للمساءلة أمام المحاكم. وينص المشروع على إمكانية عقد جلسات استماع قضائية سرية، ولكن فى حدود ضيقة للغاية، بما يُمكَن المحكمة من الاطلاع على كل الأدلة الحساسة ذات الصلة بالأمن القومي. ورغم الجدل المتجدد بشأن تحديد الخط الفاصل بين حرية التعبير والتحريض على الإرهاب، فإن القوانين قاطعة فى تجريم أى منشورات أو أقوال أو بيانات «يفهم منها بعض أو كل الجمهور الموجهة لهم» أنها تشجيع على الأعمال الإرهابية أو مباركتها أوالتحريض عليها. وتؤكد القوانين أيضا أن «تمجيد الإرهاب» بشكل مباشر أو غير مباشر مُجرًم. وفى أى الحالات، يبت القضاء، الذى يتمتع بمصداقية هائلة فى بريطانيا، فى طبيعة وهدف المنشورات التى تراها النيابة محرضة على الإرهاب. ولا تكاد عيون محققى شرطة مكافحة الإرهاب وعملاء الاستخبارات تفارق الإنترنت لرصد أى محتوى قد يتضمن التحريض على الإرهاب أو تمجيده أو التشجيع عليه. وتشير تقديرات «وحدة مكافحة الإرهاب على الانترنت» إلى أنها تمكنت، بعد آخذ رأى النيابة العامة، خلال الأعوام الأربع الأخيرة من إزالة قرابة 21 ألف «مادة إرهابية»، ما بين صور فوتوغرافية ، وفيديو مصور، ونص مكتوب، من على شبكة الإنترنت. غير أن سلطة هذه الوحدة لا تزال قاصرة على التدخل التقنى لوقف مشاهدة هذه المواد على أجهزة الكمبيوتر المتاحة فى المنشآت العامة مثل المدارس والمستشفيات والوزارات وليس المنازل وأجهزة الاتصال الخاصة. وتعطى القوانين وأجهزة الأمن أولوية لتجفيف مصادر تمويل الإرهاب. ووفقا لقانون مكافحة الإرهاب لعام 2006، أنشأت وزارة المالية «وحدة تجميد الأموال»، التى يعطيها القانون سلطة تجميد أموال أى شخص يشتبه، بعد التنسيق مع أجهزة الأمن والاستخبارات، فى صلته المحتملة بتمويل أى أنشطة إرهابية داخل أو خارج بريطانيا. ولعل السجل المعلن لشرطة مكافحة الإرهاب يعكس فاعلية المواجهة بالعدل وحكم القانون. ففى عام 2012 وحده، نجح المحققون فى استصدار أحكام قضائية بإدانة 25 شخصا فى أربعة قضايا تتعلق بخطط إرهابية كبرى، كما يمكن أن تقتل أعدادا هائلة، كما تقول الشرطة، من الأبرياء. ومع ذلك فإن أجهزة المكافحة تقر بأن ترسانة القوانين ليست كافية، رغم سرعة إصدارها، لمواجهة الخطر الذى لا يزال يطل برأسه. ولذا فهى ماضية فى تطبيق استراتيجية عملية شاملة تضمن الحماية فى الداخل، والوقاية من خطر التطرف العائد من الخارج، بما فى ذلك منطقة الشرق الأوسط المتفجرة، ومنها سوريا ومصر.