قرأت باهتمام بالغ، مثلى مثل الكثيرين، ما نشرته الصحف مما دار فى أولى حلقات البرنامج التليفزيونى الجديد (صالون التحرير) الذى يقدمه الأستاذ عبد الله السناوى من حوار حول قضايا الساعة، وتابعت ما آثاره هذا الحوار من تعليقات مكتوبة قرأت ما تيسر منها، وأخرى استمعت إليها فى اللقاء الذى يدعونا له الأستاذ رجائى عطية فى الاثنين الأول من كل شهر وشاركت فيها، لكنى أعود الآن لأواصل مشاركتى فى هذا الحوار الذى جاء فى وقته ودار فى مناخ مفتوح وأثار اهتمام الجميع. لقد نوقشت فيه قضايا خطيرة وطرحت أسئلة ملحة، والذين شاركوا فيه نخبة من الكتاب والصحفيين المهمومين بقضايا الوطن، لأنهم مواطنون، ولأنهم أصحاب رأى، ولأن فيهم هيكل، الأستاذ الذى أنضجته التجارب وأسعفته المواهب، فالسؤال مطروح عليه والجواب منتظر منه، وسيظل النقاش دائرا والسؤال مطروحا على الجميع لأن الاجابة ليست قولا فصلا أو وصفة سحرية، وإنما هى رأى يحتمل الصواب والخطأ، وهى جهد مشترك وثمرة منطقية لهذا الجهد الذى يجب أن نسهم جميعا فيه لنصل إلى إجابة نعرف من الآن أنها ليست سهلة، وليست جاهزة، وإنما هى مجاهدة فكرية وأخلاقية نستعيد بها وعينا، ونتحدث فيها عن الماضى والحاضر، فى السياسة والاقتصاد، وفى الثورة وما قبل الثورة، وما بعد الثورة، وهى لهذا تحتاج للصبر والاخلاص والتجرد والمراجعة حتى نصل فيها إلى أقصى ما نستطيع أن نصل إليه من ثقة فى صحة التشخيص واطمئنان لكفاءة المعالجة وجدواها. لا أعنى بهذا أن نطرح كل شىء للنقاش مرة واحدة، وإنما أريد أن أقول بكل بساطة إن المشكلات التى نواجهها ليست مشكلات جزئية أو وقتية نبحث لها عن حلول سريعة، وإنما نحن نفتح عيوننا الآن، وقبل الآن لنكتشف أن مصر الحديثة التى بدأت نهضتنا منذ قرنين اثنين، وخرجت من عصور الانحطاط وقطعت أشواطا فى الطريق إلى حضارة العقل والحرية مصر هذه توقفت فى منتصف الطريق وفقدت الكثير مما حققته. الدستور الذى قامت من أجله ثورة عرابى ورفاقه وأسفرت عنه ثورة 1919 تحول خلال العقود الماضية إلى ثوب مرقع مهترىء، والفكر الدينى الذى تجدد باجتهادات الامام محمد عبده وتلاميذه انتهى إلى فكر النقل والتلقين والعنف والتكفير الذى أصبح تجارة رائجة لها أئمتها وشيوخها ودعاتها ومنابرها وقنواتها الفضائية وأحزابها السياسية، والمرأة المصرية الجديدة التى ولدت من كتابات قاسم أمين ونضالات هدى شعراوى ودرية شفيق، وتحررت من الحجاب وشاركت فى حياة المجتمع أصبحت فى العقود الأخيرة تناضل لتعود إلى الحجاب، ولتنقل من الحجاب إلى النقاب، والدولة الوطنية التى انتزعناها من براثن الغزاة الأتراك، والمحتلين الانجليز سلمناها فى العامين الماضيين لشركاء أردوغان وحلفاء أوباما، والاقتصاد المصرى الذى أقام دعائمه، ورفع بنيانه طلعت حرب وزوده باكتشافات العصر وأدواته وهيأ له أسباب النجاح والازدهار حتى استطاع الجنيه المصرى أن يغلب الجنيه الاسترلينى، وصارت مصر دائنة بعد أن كانت مدينة الاقتصاد المصرى ظل يتراجع حتى انتهى إلى ما نحن فيه الآن، والجامعات المصرية التى كانت تدافع عن العقل وتزودنا فى كل مجال بما نحتاج إليه من خبرات وكفاءات أصبحت تعقد المؤتمرات لتثبت أننا لسنا محتاجين لعلوم العصر، وأننا فى غنى عن أى بحث أو اكتشاف لأن العلوم كلها معجزات تحققت فى كتبنا الدينية، حتى اللغة التى أحياها شعراؤنا وكتابنا بعد موتها تموت الآن من جديد فى الصحف والاذاعات والمكاتب والمحاكم، وفى المدارس أيضا والجامعات. هذه هى قضيتنا انها الخروج من هذا الانحطاط الذى انزلقنا إليه واستئناف النهضة من جديد، وهذا ما شرعنا فيه بالفعل حين أسقطنا نظام مبارك، ثم اسقطنا من بعده نظام الاخوان، وها نحن فى مهب الاسئلة! كيف نتخلص مما اصابنا فى العقود الماضية؟ وكيف نستأنف نهضتنا من جديد؟ وعلى أى نحو نواجه تحديات الحاضر؟ وهل ننجح فى هذه المواجهة؟ وهل نبدأ بقراءة الحاضر أم نبدأ بقراءة الماضى؟ أم ندير ظهورنا للماضى والحاضر، ونبدأ بما نريد أن يكون عليه المستقبل؟ وهل نستطيع أن نفهم الحاضر أو نتنبأ بالمستقبل دون أن نراجع الماضى، ونعترف بما وقع لنا فيه؟ وهل آن لنا أن نتخلص من الماضى ونتطهر منه فلا نكرره، ولا نعيد إنتاجه بوعى أو بدون وعى، كما فعلنا كثيرا، وكما فعلنا أخيرا؟. لقد ثرنا على نظام مبارك، وهو الحلقة الأخيرة من نظام يوليو العسكرى وأسقطناه، لكننا بعد أن اسقطنا مبارك انتخبنا مرسى الذى لم نكرر به نظام يوليو وحده، بل كررنا نظم الاتراك والمماليك والشراكسة، وغيرهم من الطغاة الذين استبعدونا باسم الاسلام فى العصور الماضية. بل نحن مهددون الآن بإعادة إنتاج هذا الماضى الذى ثرنا عليه، والدليل هو صورة عبد الناصر التى ترفع الآن من جديد كأننا نطالب الرئيس القادم بألا يكون نفسه وألا يمثل عصره أو يمثلنا، وألا يلتفت لما حققناه فى الثورتين المتتاليتين وما رفعناه فيهما من شعارات أملتها علينا حاجاتنا الراهنة وتجاربنا السابقة، وإنما عليه أن يستجيب لهذا الحنين المريض للماضى، وما يثيره فينا من ذكريات ويمثله فى خيالنا من انتصارات لا يمكن أن تتكرر لأنها ذهبت مع الماضى الذى ذهب، فضلا عن أنها لم تكن كلها انتصارات، وإنما كانت انتصارات وكانت أيضا هزائم!. لهذا يجب ونحن نطرح الاسئلة أن نكون على وعى تام بأن المشكلات التى نواجهها ليست مفردات متناثرة، وإنما هى وجوه متعددة لقضية كبرى أو لتحد عظيم هو الخلاص النهائى من عصور الظلام والطغيان والاندفاع فى طريق النهضة اندفاعا لا رجعة فيه. ولاشك أننا نواجه فى هذه الأيام أسئلة محددة وأخطارا جسيمة لا نستطيع أن نؤجل الحديث فيها أو نضيع الوقت فى التأريخ لها، والبحث عن أصولها وفروعها لأنها تتفاقم وتزداد خطورة ومشكلة الأمن، ومشكلة مياه النيل ومشكلة الغذاء، ومشكلة الطاقة، ومستقبل السلطة، وغيرها مما تحدث فيه الأستاذ هيكل وله الحق، لأنها تهديدات ماثلة يجب أن نحاصر خطرها ونتقى شرها، لكننا سنخدع أنفسنا ونخدع غيرنا إذا لم نر هذه المشكلات فى علاقتها بغيرها، فهى نتائج منطقية لأسباب علينا أن نعرفها، وأن نتجاوزها ونخرج من تأثيرها، وإلا فالمشكلات باقية لأن أسبابها باقية، والماضى مازال يفسد الحاضر، ويهدد بإفساد المستقبل. وللحديث بقية. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي