فى أول زيارة صحفية للولايات المتحدةالأمريكية عام 1989 بدعوة من الإدارة الأمريكية للتعرف على الإقتصاد الأمريكى لمجموعة لا تزيد على أربعة صحفيين، دار حوار فى الكونجرس الأمريكى، وعكس هذا الحوار إهتماما واضحا من الجانب الأمريكى لمعرفة حجم تأثير المعونة الأمريكية على الشعب المصرى، وهل يدرك المصريون أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تخصص لمصر ما لا يقل عن ثلاثة مليارات دولار سنويا فى شكل معونة عسكرية وإقتصادية، أم أن هذه المعونة لا تحقق هذا الأثر طالما أن العين لا تراها، فهى تذهب لمشروعات بنية أساسية ولمعونات عسكرية، بينما يلمس المصريون أثر المعونة الروسية لمصر فى تذكار خالد وهو «السد العالى»
فى هذا الوقت المبكر أدركت حجم ما تعنيه مصر لكل من الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا، فمصر هى مفتاح الشرق الأوسط، وهذه المنطقة هى ملعب الهيمنة بين كتلتين تسأل كل منهما "مرآتها " كل صباح ، أى منهما أقوى من الآخر؟! والمتابع للسياسة الخارجية الامريكية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن سيكتشف أن الولاياتالمتحدةالامريكية تحقق انتصارات كبرى باستغلال "قوتها الناعمة" بأكثر كثير مما يحققه جيشها فى المواجهات العسكرية، فبواسطة السينما الأمريكية ترسخ فى أذهان الأجيال الجديدة أن الولاياتالمتحدةالامريكية هى التى هزمت "هتلر"، بينما الحقيقة أن ثلوج روسيا هى التى هزمته، مثلما هزمت نابليون من قبله! الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تحارب روسيا بترسانتها النووية ولكنها تغلبت عليها بسياسات الباب المفتوح وبمطاعم الوجبات السريعة وبزجاجة "الكوكاكولا"، وبالأفلام الأمريكية، فقد أدركت الولاياتالمتحدة أن التأثير على الشعوب أهم سلاح لكسب أى حرب، فالأسلحة لا تصنع انتصارا ولكنها الإرادة والروح والحالة النفسية للشعب. وعلى الرغم من أن هناك نجاحات كبيرة لأمريكا فى مجال التأثير النفسى وسياسات الإعلام عبر قوتها الناعمة، إلا أن لها إخفاقات كبيرة أيضا فى مجال السياسة الخارجية، وليس أدل على ذلك من خسارتها لمصر بعد ثورة يوليو، وخسارتها لإيران بعد الشاه. وقد تأكد لها بعد حرب فيتنام، وحرب أكتوبر، أن الدعم الروسى العسكرى لا يمكن مواجهته إلا بخسائر فادحة ، بينما سلاح الإعلام والدعاية والسينما والانفتاح الاقتصادى تكلفته أقل بكثير، ولا يحرك قوات أمريكية للخارج، ولعل التدخل الأمريكى فى العراق أبلغ دليل على حجم الخسائر التى تكبدها الأمريكان فى غزو عسكرى أسبابه المعلنة "الحرب على الإرهاب" ، وأسبابه الحقيقية تغيير فى موازين القوى بالمنطقة لإعادة ترتيبها بشكل آخر، وهو ما كشفت عنه كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية فى عهد بوش الابن بتعبير "الفوضى الخلاقة". وهو ذات السيناريو الذى تم فى مصر وسوريا واليمن وليبيا كدول مستهدفة بينما الشرارة كانت من تونس. زيارة المشير السيسى لروسيا تعيد للأذهان مجددا توجه الرئيس جمال عبد الناصر لروسيا فى فترة الخمسينيات بعد أن خذلته الولاياتالمتحدةالأمريكية بخطأ فى حسابات سياستها الخارجية ظلت نادمة عليه حتى أرسل لها الرئيس السادات فرصة لتصحيح هذا الخطأ على طبق من ذهب. مصر طوال السنوات الماضية برهنت أنها شريك استراتيجى مخلص للولايات المتحدةالأمريكية، كما أن سياسة مصر الخارجية والداخلية سارت فى إطار احترام كامل لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، والتغيير الذى طرأ فى السياسة الأمريكية منذ نهاية فترة بوش الإبن الثانية ، وفلسفة الفوضى الخلاقة التى توقعت مشكلات سياسية كبيرة فى مصر والمنطقة العربية نتيجة لجمود عملية التغيير وعدم الانتقال الديمقراطى للسلطة، ونتيجة الهاجس الامريكى من قوة ونفوذ "الإخوان المسلمون" فى الشارع المصرى والعربى، كل هذا أدى لمبادرة من الولاياتالمتحدة لتغيير الأوضاع بنفسها ، وعدم إضاعة الوقت حتى لا تفاجئها ثورة "خامئنى" جديدة فى مصر ، ويتكرر السيناريو الإيرانى الذى لايزال "غصة" فى حلق أمريكا، تبذل كل الجهد لاستعادة الجنة الضائعة "إيران" مرة أخرى بشتى السبل بالترهيب ( الذى فشل)، وحاليا بالترغيب ( الذى بات وشيكا نجاحه). زيارة المشير عبد الفتاح السيسى لروسيا يجب أن نضعها فى إطارها الصحيح، وأن يتم تحليلها بموضوعية لا بالتهويل أو بالتهوين ، فالولاياتالمتحدة الأمركية شريك إستراتيجى لمصر ولمنطقة الخليج والمملكة العربية السعودية حتى هذه اللحظة، والمصالح الإقتصادية لأمريكا قوية للغاية فيكفى أن نعرف أن مصر واحدة من دولتين على مستوى العالم يتمتع الميزان التجارى الأمريكى معها بفائض لصالح أمريكا، كما أن البترول العربى يساهم فى إستقرار الأسواق الدولية وفى إدارة مصانع ومدافئ الغرب، والمنطقة العربية قبل "الفوضى الخلاقة" كانت منطقة نفوذ أمريكى بلا منازع، ويبدو أن هذه "الفوضى" كانت لصالح روسيا التى بدروها لم تعد روسيا "القديمة"، ففى أسواق روسيا ومولاتها آخر ما وصلت إليه التكنولوجيا والموضة العالمية من أرقى بيوت الأزياء الفرنسية والإيطالية، بما لا يوجد فى أمريكا نفسها. روسيا الجديدة تؤمن بالقطاع الخاص، وتخلصت من سيطرة القطاع العام على الاقتصاد، ومزجت بين الفكرين الرأسمالى والاشتراكى بمهارة كبيرة، وأصبحت قوة إقتصادية صاعدة، ولاتزال سوقا ناشئة فتية تجذب المستثمر العالمى بربحيتها بينما، الاقتصاد الأمريكى والأوربى يمر بمرحلة "التشبع"، وفترة ركود ، وأزمة مالية عالمية لاتزال ذات تأثير. وأيضا مصر ومنطقة الخليج اليوم تختلفان عن مصر وخليج الخمسينيات، فزيارة المشير السيسى لروسيا، وصفقة السلاح الجديدة التى تفوق قيمتها الثلاثة مليارات دولار ( 2.18 مليار يورو) تمولها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية ، والحوار حول دعم روسى لمصر فى مواجهة سد "النهضة" الإثيوبى الذى تدعمه قوى الغرب، كل هذا يعنى أن مسألة التغيير لا تمس مصر فقط ولكن منطقة الخليج العربى والمملكة العربية السعودية ( الشركاء الاستراتيجيون للولايات المتحدةالأمريكية) وهو ما يدعو الولاياتالمتحدةالأمريكية لإعادة النظر فى سياستها الخارجية ، ونظرتها للأمور فى المنطقة. المصالح والعلاقات بين الشعوب لا تعرف لغة الاستقواء أو الاستعلاء، فمن مصلحة الولاياتالمتحدةالأمريكية الإبقاء على علاقات قوية بدول المنطقة العربية، ومن مصلحة الولاياتالمتحدةالأمريكية الإتفاق على سياسة "تعاون المتنافسين" مع روسيا، فالتغيير شمل الجميع، حتى الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوربا والنظريات الاقتصادية التى حكمت العالم طويلا، فهناك سياسات اقتصادية جديدة تراعى حقوق الشعوب فى الحياة، والعدالة والمساواة فى توزيع الدخل، والتبادل التجارى العادل بين الدول. دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية للإخوان المسلمين لن يجديها أو يجديهم نفعا بعد أن فقدوا الدعم الشعبى فى مصر وغيرها من الدول العربية، ومن يحب الولاياتالمتحدةالأمريكية لابد وأن ينصحها بسياسات خارجية أكثر حنكة، تأخذ فى الاعتبار المتغيرات الدولية المختلفة، ومصالح الشعوب وإرادتها، وتهدف لتحقيق الاستقرار فى المنطقة، فماذا يعنى تقاربا مع إيران، ومساع لحل الدولتين بين إسرائيل وفلسطين، وفى ذات الوقت خسارة سياسية لمصر ولمنطقة الخليج؟ الأمن القومى لإسرائيل لن يكون إلا باستقرار أوضاع المنطقة، وبدول جوار قوية وعاقلة، وبحل عادل للقضية الفلسطينية، وبعلاقات إقتصادية وتبادل تجارى واستثمارى واسع، لكن فلسفة "الشرق الأوسط الجديد" التى تسعى الولاياتالمتحدة لتطبيقها الآن والتى ظهرت كفكرة فى بداية تكون إسرائيل، وفى ظل علاقات صراع شديدة وحروب بين إسرائيل ودول جوارها العربى ثبت فشلها ، وعدم جدواها، فقد ظهرت فى ظل ظروف مختلفة تماما عن الظروف التى تمر بها منطقتنا العربية حاليا. "سد النهضة" ليس بديلا .. كرمز .. "للسد العالى"، والسياسة الخارجية الأمريكية يجب أن تقود، لا أن تكون أسيرة مصالح وأجندات لقوى أخرى من الواضح أنها لا تدرك أن مصالحها فى السلام والاستقرار وليس العكس.