أحد تداعيات صراعات المنطقة وتفاعلات ثورات دول الربيع العربي أنها قد تمهد لإعادة رسم خريطة توازنات الشرق الأوسط علي مستوي علاقات دوله وتحالفاتها الإقليمية والدولية, وعلي مستوي النظام الدولي ودور القوي الكبري فيه. فمرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا شهدت تحديات كبيرة, سواء في تعثر التحول الديمقراطي والتعايش السياسي بين مختلف القوي السياسية وتراجع الأداء الاقتصادي وحالة عدم الاستقرار الأمني, انعكست علي السياسة الخارجية لكثير من تلك الدول, حيث إن المحدد الرئيسي لخريطة التحالفات الإقليمية هو الموقف من تلك الثورات ذاتها, فهناك دول تحفظت عليها تحت الخوف من فكرة العدوي وانتقالها إليها, أو بسبب صعود أنظمة تختلف توجهاتها معها, كما حدث مع دول الخليج وموقفها من الثورات العربية, وبالمقابل سعت دول الربيع ذاتها لإعادة رسم سياستها الخارجية وفقا للموقف من ثورتها, كما حدث في حالة العلاقات المصرية الأمريكية وتوجه السياسة المصرية صوب روسيا كرد فعل علي الموقف الأمريكي من30 يونيو. والأزمة السورية المشتعلة ساهمت في رسم خريطة التحالفات الإقليمية, حيث وقفت إيران وحزب الله والعراق إلي جانب نظام بشار, ووقفت دول الخليج العربي مع المعارضة, كما أن التحالفات التقليدية بدأت تشهد الكثير من التغير, فالولاياتالمتحدة كانت ترتكز في سياساتها علي التحالف الاستراتيجي مع الدول المعتدلة في المنطقة مثل مصر والسعودية والأردن لاحتواء ما تسميه الدول المارقة, مثل إيرانوسورياوالعراق, لكن الموقف الأمريكي من الأحداث في مصر والتعليق الجزئي للمعونات العسكرية أحدث شرخا في علاقات الدولتين, كما أن العلاقات الأمريكية السعودية قد شهدت بدورها شرخا في ظل تردد الموقف الأمريكي من الأزمة السورية, وتراجع فرص الخيار العسكري بعد استخدام النظام للأسلحة الكيماوية, وزاد التقارب الأمريكي الأخير مع إيران من حدة الشرخ بينهما, حيث تعتبر الرياض أن إيران, بتدخلها في سوريا وفي شئون دول الخليج ونفوذها القوي في العراق ومساعيها لتطوير برنامج نووي, هي المهدد الرئيسي لحالة عدم الاستقرار في المنطقة. وقد أدت هذه التفاعلات بدورها لتراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة وهو ما أوجد فراغا حاولت روسيا ملأه واستعادة نفوذها القديم, لكن إلي حد يمكن لروسيا أن توازن النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وتوظيف تناقضات أزماته؟ وهل فعلا سنشهد تغيرات جذرية في توازنات المنطقة؟. صحيح أن روسيا لعبت دورا مهما في أزمة البرنامج النووي الإيراني ووقف التصعيد باتجاه الخيار العسكري إلي الاتجاه صوب الحل السلمي مع قرب التوصل إلي اتفاق بين إيران والدول الغربية علي وقف تخصيب اليورانيوم الإيراني بنسبة20% مقابل رفع جزئي للعقوبات, كذلك لعبت روسيا دورا متزايدا في الأزمة السورية وتغليب الخيار السلمي لحلها علي الخيار العسكري بعد أن نجحت في التوصل إلي اتفاق يقضي بتدمير الأسلحة الكيماوية السورية مقابل وقف الخيار العسكري الأمريكي, وتأكيد أنه لا بديل عن الحل السياسي من خلال إنجاح مؤتمر جنيف2 المزمع عقده, كما أن روسيا سعت لتوظيف التراجع في العلاقات المصرية الأمريكية لتدعيم علاقاتها بالقاهرة في الجانب العسكري والاقتصادي, لكن رغم نمو النفوذ الروسي في المنطقة إلا أنه لا يمكن القول أن توازن القوي التقليدي إبان الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا قد عاد مرة أخري, فأولا فإن روسيا تعتمد علي البرجماتية في سياساتها الخارجية, أي أنها أحلت المصلحة محل الإيديولوجيا التي كانت سائدة خلال عهد الاتحاد السوفيتي السابق, ولذا نجد تغيرات كبيرة في مواقفها من أزمات المنطقة طبقا لمصالحها وتفاهماتها مع الولاياتالمتحدة, كما حدث من قبل مع نظام صدام حسين ونظام القذافي, فهي عارضت التدخل العسكري الغربي لكنها لم تمنعه, وذات الحال بالنسبة للملف النووي الإيراني ومشكلة سوريا, حيث يمكن أن تتخلي عن نظام بشار إذا وجدت أن مصلحتها في ذلك, إضافة أن تصاعد النفوذ الروسي جاء في إطار الحرب الباردة الجديدة مع الولاياتالمتحدة وصراع النفوذ في الشرق الأوسط ومنطقة القوقاز, وهو أيضا نتيجة لتراجع الدور الأمريكي في المنطقة وتخبط سياسة واشنطن في عهد أوباما وعدم تبلورها لسياسة واضحة وسواء من أزمات المنطقة خاصة الصراع العربي الإسرائيلي, أو من تفاعلات ثورات الربيع العربي. وبالتالي فإن مراهنة بعض الدول العربية علي الدب الروسي بشكل كامل كبديل للولايات المتحدة يمثل مجازفة كبيرة وخطأ استراتيجيا, فالأفضل لها أن تكون المصلحة هي الحاكم لسياساتها الخارجية, بمعني أهمية توظيف التنافس الأمريكي الروسي لخدمة مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية, وأن يكون النفوذ الروسي فرصة لتنويع سياساتها الخارجية وتدعيم استقلاليتها من الاعتماد الكامل علي الجانب الأمريكي والأوروبي والاستفادة من قدرات روسيا الاقتصادية, وكذلك تدعيم نظام دولي متعدد الأقطاب يصب في مصلحة الدول العربية بدلا من النظام الحالي أحادي القطبية, ومن ثم فأزمات المنطقة تدفع باتجاه خريطة توازنات جديدة لكن اتجاهها وشكلها النهائي يتوقف علي قدرة الدول العربية علي فهم تلك التحولات والتعامل الإيجابي معها. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد