ما أسهل أن تتفلسف, أو أن تسهب وتتطنب في الكلام الكبير, فالكلام أسهل مهمة في الدنيا, وكلما كثر كلامك قل عملك, فإياك إياك أن تثق كثيرا فيمن يتكلم كثيرا, إن المهم هو العمل! وبمناسبة الكلام الكبير بينما العمل قليل, قد يكون مسموحا بطرح سؤال هنا: هل نحن في مصر قادرون علي إيقاف ظاهرة انتشار التوك توك في شوارعنا؟ لو أننا استطعنا لكان ذلك بداية لإنجازات مهمة ومعتبرة, تتلوها إنجازات أهم وأكبر. إنك تسمع القوم يتحدثون بكلام فخيم عن مشروعات فخيمة, في إقليم القناة, وبورسعيد, وتوشكي, والضبعة, وفي شرق التفريعة, فتهز رأسك منتشيا, وتتمني لهم النجاح, وتدعو لهم في سرك: وفقكم الله, لكن ما إن تكاد تتم دعاءك حتي يفاجئك توك توك بإغراق وجهك بغباره, وبثقب أذنيك بضجيجه غير المحتمل, فستستغفر الله في سرك أيضا ثم تتمتم: شرق تفريعة إيه وضبعة إيه, ونحن غير قادرين حتي الآن علي التوك توك. وللذين لا يعرفون التوك توك جيدا, فهو ليس مجرد مركبة صغيرة تسير علي عجلات ثلاث, بل هو في الواقع حكاية شعب, وملحمة أمة, وعنوان حضارة, إنه صحيح في حجم الكف لكنه في الواقع يغلب مائة وألف, ككل الأشياء الصغيرة في حياتنا! التوك توك أولا, صغير الحجم, ككل الصغار في هذا المجتمع, وهو الأمر الذي يتيح له فعل الأعجايب. مثلا هو يسير علي الرصيف, ويمشي في الممنوع, ويدهس الناس ليل نهار, فلا يسمع أحد صراخ الناس! وهو ثانيا, كائن بلا ترخيص, فلا هو له رخصة سير, ولا لسائقه رخصة قيادة, ولا تعرف له أجرة.. هي أحيانا جنيه واحد, وأحيانا جنيهان, وربما وصلت إلي ثلاثة. ثم إنه ثالثا, كائن زئبقي يمرق من أمامك مروق السهم, فلا تكاد تراه, ورغم ذلك فإن إزعاجه مثال لكل أنواع التلوث التي سمعت ولم تسمع عنها, بصري وسمعي وهوائي ومائي وبيئي وحضاري وثقافي, وقل ما شئت! غير أن الحقيقة الغائبة في الموضوع مع ذلك هي أن هذا التوك توك هو عنوان قطاع معتبر من الشعب, إذا ما وضعنا مفهوم كلمة الشعب كما رسخت في ضمير الناس, وكما عبر عنه خير تعبير الفنان الراحل نجاح الموجي عندما رد علي سؤال جورج سيدهم: أنت مين يا وله؟ فقال: أنا الشعب! القصة ببساطة هي أن التوك توك رغم فداحة أضراره صار وسيلة مواصلات لا استغناء عنها لملايين المصريين الغلابة الذين لا يملكون ثمن سيارة خاصة, ولا طاقة لهم بأجرة التاكسي, وليس في حواريهم الضيقة مواصلات عامة, فيركبون التوك توك! والتوك توك هو أيضا ثقافة بالمعني الحرفي للكلمة, واسمع إن شئت الأغاني التي يلعلع بها الكاسيت البدائي الذي يفتحه السائق علي آخره, فيصل صوته إلي نهاية الكون, ودقق إن أردت في كلمات أغاني هذا الكاسيت, ولسوف تجد عندئذ مصر الحقيقية, بكل آهاتها وآلامها المكبوتة والدموع, ولا عزاء لكلام المثقفين المنفوخين, بشمخة الأنف الكاذبة, والعطر الباريسي, والشراهة الزائدة عن الحد! ياناس.. التوك توك جزء من مصر, بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان حقيقية, وليس معاني الأغنيات المعلبة سابقة التجهيز إياها, فإن استطعتم حل مشكلة التوك توك الحقيقية, فسوف تستطيعون حل مشكلات مصر. وما مصر؟ أليست سلسالا معقدا من مشكلات صغيرة, تتشابك مع بعضها لتصنع دائرة عويصة من المطالب والتطلعات والألم, جعلت الناس يصرخون في الشوارع والطرقات, بينما أطلقنا عليه اصطلاحا لفظ ثورة؟ قل لي كم مليونا يركبون التوك توك العشوائي في بلدك.. أقل لك من أنت. ثم إن التوك توك هو أيضا تعبير عن بطن مصر الاقتصادي المضطرب, أليس هو المظهر الأكثر تعبيرا عن البطالة, وعدم قدرة سوق العمل علي استيعاب الساعين للعمل؟أليس يتكسب من ورائه عشرات الآلاف, بل ربما مئات الآلاف, من الشباب والصبية, الذين تمثل دخولهم منه طوقا للنجاة من الجوع والفقر والعوز؟ ثم أليس في عشوائيته الظاهرة حياة أخري مبطنة لأحياء عشوائية تعج بها مصر في هوامشها السحيقة والأطراف؟ وهكذا, فإن مصر المتكتكة لن يبدأ حل مشكلاتها إلا عندما ينظر الناس اللي فوق للناس اللي تحت الذين يركبون التوك توك, ولا تصدق من يقول لك إن الدعاوي القضائية في المحاكم, وهيئة مفوضي الدولة, وفي القضاء الإداري, يمكن أن تضع حدا للتوك توك, فالمسألة أعمق بكثير من أحكام القضاء, إنها قضية مجتمع بكامله. لمزيد من مقالات سمير الشحات